إن صورة فيتنام العالقة في الأذهان هي الحرب الفيتنامية وصور القتلى والقصف وأنه الشعب الذي قاوم أقوى قوة عسكرية في العالم، وهي تجربة شعب انتصر على قوة استعمارية بسبب وطنيتهم وتضحياتهم، ولكن حتى تكتمل الصورة علينا معرفة أن الحرب في فيتنام والتي استمرت حوالي عشرين عاماً! (19 عاماً وخمسة شهور) كانت حرباً بالوكالة بشكل رسمي، وأن فيتنام لم تكن موحّدة في وجه أمريكا بل إنها كانت حرباً بين فيتنام الشمالية التي رأسها هو تشي منه، وفيتنام الجنوبية التي رأسها نغو دينه ديم!
ذلك النزاع وقع في فيتنام ولاوس وكمبوديا ابتداءً من 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1955، حتى سقوط سايغون في 30 أبريل/نيسان 1975، وتعد ثاني الحروب الهندوصينية، وتلقى الجيش الفيتنامي الشمالي الدعم من الاتحاد السوفيتي، والصين وحلفاء شيوعيين آخرين فيت كونغو، والخمير الحمر، وكوريا الشمالية، وأما الجيش الفيتنامي الجنوبي فقد تلقى الدعم من الولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، وتايلاند وحلفاء آخرين مناهضين للشيوعية مثل استراليا الفلبين ونيوزيلاندا وجمهورية الخمير ومملكة لاوس، وهي حرب بالوكالة في حقبة الحرب الباردة.
مساحة فيتنام ضعف مساحة سوريا 331 ألف كم مربع، وعدد سكانها خمسة أضعاف سكان سوريا حيث بلغت 102 مليون، وفيها 54 مجموعة عرقية معترف بها من قبل الحكومة الفيتنامية، وسبعة فئات دينية ولادينية.
وقف الاتحاد السوفييتي جنبا اًلى جنب مع القيادة الفيتنامية في الشمال، ضد التدخل الأمريكي في فيتنام التي دعمت حكومة سايغون في الجنوب، حيث استقدم السوفييت ما بين عامي 1965و عام 1974حوالي 6000 ضابط و 4500 من ضباط الصف والجنود إلى فيتنام، لتدريب الأفراد الفيتناميين مباشرة على كيفية تشغيل أنظمة الأسلحة ودعموا بصاروخ أرض جو إس 75 دفينا موجه بالرادار في فيتنام، وصواريخ سام مضاد الطائرات والتي أرهقت الطائرات الأمريكية، ورفض الروس في حينها إعطاء الفيتناميين صواريخ مضادة للقوارب من طراز كومار خشية الدخول في حرب عالمية مع الولايات المتحدة.
تقديرات تكلفة الاتحاد السوفييتي هي 2 إلى أعلى التقديرات 8 مليارات دولارات (1974) والتي تعادل اليوم حوالي 45 مليار دولار، بينما كانت تكلفة الولايات المتحدة ما بين أقل تقديرات 145 مليار دولار وأعلى التقديرات 300 مليار دولار (1974) تعادل اليوم 817 مليار دولار، بمعنى أن الولايات المتحدة أنفقت أكثر بـ 18 مرة من السوفييت، ورغم ذلك خسرت فيتنام الجنوبية التي دعمتها، وفازت فيتنام الشمالية المدعومة من الاتحاد السوفيتي، ولم يكن للفيتناميين الشماليين الفوز على أخوتهم الفيتناميين في الجنوب لولا دعم السوفييت وحلفائهم.
بعد إعادة التوحيد في عام 1975، عانى الاقتصاد الفيتنامي من صعوبات هائلة في الإنتاج، واختلال التوازن في العرض والطلب، وعدم الكفاءة في التوزيع والتداول، ومعدلات التضخم المرتفعة، وتزايد مشاكل الديون.
خنق الاقتصاد الموجه الدوافع التجارية لمزارعي الأرز الفيتناميين، وعلى الرغم من أن فيتنام هي واحدة من أكبر مصدري الأرز في العالم اليوم، فقد كانت فيتنام بحلول أوائل الثمانينيات من القرن الماضي مستورداً للأرز.
كتب ستانلي كارنو في مجلة سميثسونيان: “بتشجيع من الاتحاد السوفيتي، أهدرت الحكومة الفيتنامية مبالغ طائلة على مشاريع صناعية مثل مصانع الصلب، بدلاً من التركيز على الزراعة والمصانع الصغيرة، ولقد قمعوا رواد الأعمال من القطاع الخاص، ومن خلال تحويل الفلاحين إلى مجموعات، استنزفوا المبادرة وشلّ الإنتاج الزراعي، كما اعتقلوا ما يصل إلى 300000 من المسؤولين الفيتناميين الجنوبيين المهزومين وضباط الجيش في معسكرات “إعادة التأهيل” الوحشية “!
كان سياسة الإصلاحات الاقتصادية “دوي موي” من نتاج المؤتمر السادس للحزب الشيوعي الفيتنامي-ديسمبر 1986- نقطة تحول مهمة في تحول الاقتصاد الفيتنامي إلى اقتصاد مفتوح وموجه نحو السوق، وعالمي أهداف هذه الإصلاحات في الأساس كان القضاء على الآلية المدعومة من الدولة ، لتنويع ملكية الأصول المملوكة ملكية عامة، لتشجيع وتحفيز تطوير المنظمات الخاصة والأفراد والقطاعات الاقتصادية، لتحقيق أقصى استفادة من الموارد المحتملة لتطوير الإنتاج وتبادل السلع، لسنّ سياسات لدمج فيتنام في الاقتصادات العالمية والإقليمية، لتسريع أنشطة التجارة الخارجية وتشجيع تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، لتجمع الإصلاح الإداري مع تجديد السياسة الاقتصادية، لتعزيز إدارة الدولة والتنظيم الكلي، والجمع بين النمو الاقتصادي والاجتماعي العام التنمية لتحقيق الاستقرار في السياسة و”الحفاظ على الأهداف الاشتراكية”.
لذلك كان التحول من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق في فيتنام مختلف جداً عما حدث في الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية.
تم التركيز على ترافق الاستقرار الاجتماعي والسياسي مع استقرار الاقتصاد الكلي والسيطرة على موارد الدولة الفيتنامية والعمل من أجل إنشاء بيئة مواتية للتحول وتطوير اقتصاد السوق.
اتبعت فيتنام سياسات انعزالية بينما عملت الولايات المتحدة بجد لعزل فيتنام اقتصادياً، والذي أتى بنتائج كارثية كما هي حال العقوبات الاقتصادية الغربية والأمريكية على النظام السوري. في عام 1976 أعلن المؤتمر الوطني الرابع أن فيتنام ستكمل تحولها الاشتراكي في غضون عشرين عاماً وثبت أن هذا التفاؤل لا أساس له. وبدلاً من ذلك، خرجت فيتنام من أزمة اقتصادية إلى أخرى.
سارت الخطة الخمسية الثانية بشكل سيء للغاية وانهارت 10000 من أصل 13246 تعاونية اشتراكية بحلول عام 1980، وانخفض دخل الفرد الشهري في الشمال من 82 دولاراً في عام 1976 إلى 58 دولاراً في عام 1980. (وهي بالمناسبة نفس معدل دخل الفرد السوري الآن الذي وصل إلى 25-50 دولار)
خرج آخر جندي أمريكي من فيتنام في مارس 1973 ولكن ظل الفيتناميون الشماليون مصرّون على استرجاع فيتنام الجنوبية وظلوا كذلك في حرب حتى يناير 1975 واحتفلوا بدخول سايغون 30 أبريل/نيسان 1975، وظلت المأساة الاقتصادية والشعب الفيتنامي في بؤسه وفقره حتى بعد خروج الأمريكيين.
كان على الفيتناميين الانتظار حتى عام 1986 حتى يبدؤوا إصلاحات السوق أو ما أسموه “دوي موي” والتخلي عن التخطيط المركزي، وانفتح الاقتصاد على قوى السوق من العرض والطلب في المناطق الريفية، وأنهت الحكومة العمل الجماعي وسمحت للمزارعين بالاحتفاظ بما زرعوه وبيعه في الأسواق.
بعد الانفتاح على العالم – بعد إزالة العقوبات الاقتصادية والسياسية- وتوقيع اتفاقيات مع الولايات المتحدة والانضمام لعضوية المنظمات الدولية من مثل منظمة التجارة العالمية ناتج الدخل القومي الفيتنامي ارتفع من 14 مليار دولار عام 1985 إلى 261 مليار دولار عام 2019. وبالعملة المحلية ارتفع 214 ضعفاً من 28 تريليون دونغ فيتنامي إلى 6 كوادريليون
معدل النمو الاقتصادي الفيتنامي ارتفع من 3.85% عام 1985 إلى 7% عام 2019 ووصل إلى 9.54% عام 1995.
حصة الفرد من ناتج الدخل القومي الفيتنامي ارتفعت 21 ضعفاً من 377 دولار عام 1985 إلى 8041 دولار عام 2019، ووصلت صادرات فيتنام إلى 248 مليار دولار (2019)، واحتياطي نقدي 49.5 مليار دولار (2017).
انتعش إنتاج الأرز بشكل كبير، مما جعل فيتنام واحدة من أكبر مصدري الأرز في العالم، كما نمت صادرات الشاي والقهوة بشكل ملحوظ في المدن، بدأت المصانع الجديدة في إنتاج الأحذية والملابس وأجهزة الكمبيوتر التي سيتم بيعها في بلدان أخرى، وبحلول عام 2001 كان الاقتصاد الفيتنامي ينمو بسرعة بنحو ثمانية بالمائة سنوياً.
ويقف المتأمل اليوم ليرى أن التبادل التجاري بين روسيا وفيتنام عام 2020 لا يتجاوز 4 مليارات دولار حيث بلغ إجمالي قيمة الصادرات إلى فيتنام 2.1 مليار دولار أمريكي بينما تجاوزت صادرات فيتنام إلى روسيا 2.44 مليار دولار أمريكي، بينما التبادل التجاري بين فيتنام والولايات المتحدة عام 2018 بلغ 54 مليار دولار حيث قامت فيتنام بتصدير 43.5 مليار دولار للولايات المتحدة بينما استوردت منها 11.7 مليار دولار.
صنّاع القرار الروسي يحتاجوا لاستراتيجية نهوض سوري حقيقي يستفيد منها الجميع، بحيث يتجاوزوا قانون قيصر عبر الاستغناء عن خدمات النظام السوري وبذلك يتم تطبيق القانون بسهولة من حيث عودة اللاجئين والنازحين وإخراج السجناء وتُفتح صفحة جديدة في سوريا تقودها روسيا بحكومة جديدة، وعندها يتم عقد مؤتمر إعادة إعمار تساهم فيه كل دول العالم وخاصة دول مناطق النفوذ الحالية ولا يعد هنالك أي عائق أمام دخول الشركات الأوربية والعربية والصينية والأمريكية والتركية والروسية إلى السوق السورية.
منذ دخول اتفاقية التجارة الثنائية بين الولايات المتحدة وفيتنام حيز التنفيذ في عام 2001، نمت التجارة بين البلدين والاستثمار الأمريكي في فيتنام بشكل كبير، حيث ارتفعت التجارة البينية من451 مليون دولار في عام 1995 إلى أكثر من 90 مليار دولار في عام 2020، وبلغت قيمة صادرات السلع الأمريكية إلى فيتنام أكثر من 10 مليارات دولار في عام 2020، وبلغت قيمة واردات السلع الأمريكية في نفس العام 79.6 مليار دولار.
المهم في بداية العقد الثاني للمسألة السورية وبالنظر لعدم نية روسيا الخروج من سوريا والرضى الأمريكي عن ذلك التواجد وتجميد كل القوانين الأممية والمسارات السياسية أن تستفيد روسيا من التجربة الفيتنامية ولا تدع السوريين ينتظروا عشر سنوات أخرى حتى يبدأوا مسيرتهم النهضوية كما انتظر الفيتناميون سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، بل استغلال الوقت عن طريق البدء بالتحضير لحكومة تكنوقراط سورية تضع الاقتصاد السوري على السكة الحقيقية كما حصل في فيتنام التي كانت حليفة الاتحاد السوفييتي وظلت تعاني من الجوع والفقر حتى تصالحت مع العالم وخرجت من كل قوانين العقوبات ولا يمكن تجاوز العقوبات الأوربية والأمريكية مع وجود نفس النظام بل من الضروري إغلاق هذه الصفحة الكئيبة الي دامت نصف قرن والبدء بتوجه يستفيد منه الجميع.
لقد طوّرت علاقاتها مع العالم الصناعي وباتت رقماً صعباً في الاقتصاد العالمي تنافس الصين وتشكل أكبر شريك استراتيجي للولايات المتحدة وتستقبل سنوياً أكثر من نصف مليون سائح روسي على أرضها، وتمتلك فيتنام 22 مشروعاً استثمارياً في روسيا تبلغ قيمتها حوالي 3 مليارات دولار أمريكي، كما أن أحد أكبر وأبرز الاستثمارات الفيتنامية تشمل 2.7 مليار دولار أمريكي لمجموعات تي إتش غروب في مزارع الألبان في منطقة بريموري.
لا يوجد حل لقطف ثمرة الوجود الروسي اقتصادياً في المستقبل دون ترسيخ دعائم الأمن والسلام والقانون واقتصاد السوق والحرية الاقتصادية وهذا لا يتم دون وجود عدالة وفصل بين السلطات، وعلى صانع القرا الروسي التركيز على النجاح الاقتصادي ما بعد الحرب من خلال اقتصاد السوق والبيئة الآمنة والاستقرار السياسي وتشجيع دخول الشركات العالمية وهذا لا يتم بوجود سلطة استبدادية تنفّر السكان والمستثمرين.
ليس من الضروري أن ينتظر السوريون عشرين عاماً بعد انتهاء الحرب حتى يبدأوا مشروع نهضتهم الاقتصادية كما حصل في فيتنام.
يستطيع الروس أن يكسبوا اقتصادياً أضعاف ما سيكسبونه بالقهر العسكري لو أحسنوا الأداء السياسي والاقتصادي في سوريا، وعلى رأس أولويات الروس يجب أن يكون فتح صفحة جديدة مع الشعب السوري وتجاوز النظام السوري الموضوع هو وعائلته تحت العقوبات الاقتصادية، وكون وجوده ووجود تركيبته الحالية مزعزع للثقة في الدولة السورية، فضلاً أنه متهم بجرائم حرب، وإن هنالك تاريخ طويل بينه وبين الشعب دماء وعذابات نزوح ولجوء وسجون وقتل، وبوجوده لن تكسب روسيا لا المستثمر السوري والوطني ولا العربي ولا الأجنبي.
أمام الأضرار الهائلة بالاقتصاد السوري لا يمكن لسوريا دون الانفتاح على العالم والخلاص من قوانين العقوبات وعداء العالم وتغيير الخطاب السياسي والعقلية الحاكمة الدخول في أية عملية إعادة الإعمار.
لقد عبّر الروس عن استيائهم من نظام الأسد في صحيفة البرافدا في المقالة المنشورة 14 أبريل/نيسان 2020 المعنونة : “الفساد في عشيرة الأسد” وأشارت أن “بشار الأسد يعجز عن ضبط الأوضاع الاقتصادية في سوريا، ومن الممكن أن يفقد نصف البلاد بسبب أقاربه” واتهمت ماهر الأسد أنه تاجر دم ومجرم الاقتصاد، ونالت من منظومته “الاقتصادية” مخلوف والقاطرجي وحمشو وغيرهم، وكذلك ذكرت وكالة “الأنباء الفيدرالية” الروسية التي يملكها الملياردير يفغيني بريغوجين المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين إن الفساد الذي يستشري في السلطة السورية يعيق التعاون بين موسكو ودمشق، وشنّت هجوما لاذعا على بشار الأسد واتهمته بأنه ضعيف ولا يتحكم في الوضع في البلاد، وقالت إن المسؤولين السوريين يعيثون فسادا ويعقّدون المشكلات الاقتصادية، ويوظّفون كل شيء لصالحهم، لاشك أن مثل هذا النظام وبوجوده وتركيبته الحالية فإن الروس أغلب الظن باتوا مقتنعين بأن هذا النظام “حلُّهُ في حلِّهِ” وبوجوده وتركيبة نظامه لا يمكن أن تكون سوريا فيتنام الصناعية والناهضة اقتصادياً.
إذا كان هذا النهوض متوقف على تجاوز النظام السياسي السوري الحالي فمن المنطقي اقتصادياً وتجارياً أن تقوم روسيا الدفع به لو أرادت فعلا قطف ثمرة التدخل في سوريا، عندها فقط يمكن لسوريا أن تستضيف شركات أديداس ونايكي وهوندا وفورد وجي إم وآبل وسامسونج ونستلة ومئات الشركات العملاقة الغربية والروسية والعربية كما فعلت فيتنام التي باتت ثاني أكبر مصدر للبن في العالم من حيث الحجم، وصدّرت أكثر من 1.3 مليون طن في عام 2012، و58 مليار دولار من الأجهزة الالكترونية، و 3 مليار دولار منسوجات، وإن سامسونج تصنّع معظم هواتف غاليكسي في فيتنام وكذلك هواتف آبل.
فهل تنجح روسيا بتقديم سوريا كـ “فيتنام” الشرق الأوسط الناهضة اقتصادياً وتربح روسيا وسوريا معاً؟ سؤال يبقى في ذمة صانع القرار الروسي.
د.أسامة قاضي