إن الحكومات التي تتجاهل الشأن الاقتصادي ومستوى معيشة الشعب تعنيها مقالة نيويورك تايمز عام 1992 التي توجهت للرئيس جورج بوش الأب بعنوان : “إنه الاقتصاد، أيها الأبله”، حيث كان وقتها بيل كلينتون ينافسه على الرئاسة ويتحدث عن الاقتصاد ورفع مستوى معيشة الأمريكيين والبطالة والتأمين الصحي وخلق فرص عمل، بينما بوش يُسهب في الحديث عن الأمن القومي وحرب الخليج ومسائل لا يهتم بها الأمريكيون، فكانت المقالة تحاول تنبيه بوش من مغبة الاستمرار بتجاهل الحديث عن الاقتصاد سيكون ثمنه خسارة الجمهوريين الحكم، وعدم التمديد له كرئيس حالي دورة أخرى، رغم أن العادة جرت يأن يكمل الرئيس دورة ثانية بسهولة بسبب إنجازاته في السنوات الأربع الأولى ولا يصمد أمام حججه أي منافس، ولكن بوش الأب خسر دورته الثانية بسبب تجاهل الاقتصاد في حملته الانتخابية ودفع الثمن خسارته البيت الأبيض.
الأحزاب السياسية التي لا تمتلك مشروعاً نهضوياً حقيقياً تكون منقطعة عن الجماهير مهما صورت لها أوهامها، تتصور أنها تحافظ على مصالحه وأنها الأحرص عليه، وسرعان ما يندم الناخب الذي وثق بهم عندما أعطاهم صوته.
انخفض ناتج الدخل القومي التونسي من 49 مليار دولار عام 2010 إلى أن وصل 39 مليار دولار عام 2020 وهو نصف دخل شركة بيبسي لوحدها! وبلغ مستوى البطالة أكثر من 16 بالمائة وبات أكثر من ثلث التونسيين تحت خط الفقر، ولازالت الأحزاب السياسية تتعارك من أجل السلطة متجاهلة حاجات الشعوب ورفع مستوى دخلها، وحصة المواطن التونسي من ناتج الدخل القومي عام 2005 بلغ 3160 دولار وانخفض إلى مستوى أسوأ عام 2020 حيث وصل إلى 3100 دولار، بينما حصة المواطن الدانماركي عام 2020 من ناتج الدخل القومي 62720 دولار، بمعنى أنها عشرون ضعف حصة المواطن التونسي!
ارتفع ناتج الدخل القومي التونسي التي يعيش فيها 11.6 مليون نسمة خلال 15 عاماً منذ عام 2005 إلى 2020 من 32 مليار دولار إلى 39 مليار دولار فقط، بينما ارتفع الناتج الدانماركي التي يعيش فيها 5.8 مليون نسمة في نفس الوقت من 264 مليار إلى 350مليار دولار! لماذا تكون إنتاجية الدانمارك أكثر بعشرين ضعف إنتاجية المواطن التونسي؟
وبينما تعيش لبنان الذي يسكنها 6.5 مليون نسمة سلسلة أزمات اقتصادية بحكومة وبلا حكومة بالكاد وصل ناتج دخلها القومي إلى 54 مليار دولار عام 2018 وسرعان ما هبط إلى مستويات أقل من 40 مليار عام 2020 ، بينما فنلندا التي يسكنها 5.5 مليون نسمة (تقريباً نفس عدد سكان لبنان) وصل ناتج دخلها القومي في نفس العام 268 مليار دولار، فلماذا كانت إنتاجية الشخص الفنلندي أفضل بعشر مرات فضلاً عن سوء الخدمات من ماء وكهرباء المقدمة والكوارث البيئية التي تعيشها لبنان، إضافة لسوء توزيع الثروة والفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء!
ما الذي تقوم به الحكومات بعد استلام السلطة سوى الدفاع عن مشروعيتها مع خصومها؟ وماذا يفيد هذا الحوار الذي لا يضع الطعام على مائدة المواطن؟ ولا يرفع مستوى دخله ولا يخلق فرصة عمل له؟
ما هو سر هذا التخلف الاقتصادي؟ السبب ببساطة هو أنه ما يسمى “النخبة السياسية” تتجاهل مطالب الشعب بمستوى معيشي لائق، بسبب الفساد والمحسوبيات لأسباب شخصية أو حزبية أو طائفية أو إثنية ممزوجاً بكثير من سوء الإدارة والإهمال، والتبجح بشعارات لاتسمن ولا تغني من جوع والإصرار على معاداة الكرة الأرضية نفاقاً ونكاية بــ “الامبريالية” التي دخل معها الجيش السوري مثلاً كتفاً بكتف مع الجيوش “الامبريالية” في حربها ضد العراق!
كيف يمكن لدولة مثل العراق بملايينها الأربعين وصل ناتج دخلها القومي عام 1990 إلى 180 مليار دولار يظل ناتج دخلها القومي عام 2020 نفس الرقم! كندا لديها تقريباً نفس عدد سكان العراق وصل ناتج دخلها القومي عام 2020 إلى 1.7 تريليون دولار بمعنى أن ناتجها ارتفع تقريباً ضعفين ونصف منذ عام 1990 حيث كان ناتج دخلها القومي 593 مليار دولار! هذا يعني أن الشقيقة العراق أضاعت 30 عاماً من التنمية الاقتصادية! وهذا لم يكن ليحدث لولا أن الجسد السياسي تجاهل الاقتصاد وتطلعات شعبه المعيشية ونهوض أغنى بلد عربي اقتصادياً لأسباب سياسية وطائفية وشعارات تافهة وتمييز مقرف بين أبناء الشعب الواحد وفقدان الثقة مع الطبقة الحاكمة!
الوضع في سوريا اليوم كارثي ولا يمكن القياس عليه، وكان اقتصادياً منهكاً قبل عام 2011 حيث كان ناتج دخله القومي حوالي 60 مليار دولار في بلد يسكنه 23 مليون نسمة، بينما بلجيكا، التي يسكنها نصف عدد سكان سوريا، 11.5 مليون نسمة بلغ ناتج دخلها القومي 522 مليار دولار في نفس العام فلماذا كانت إنتاجية الشخص البلجيكي أفضل ب 16 مرة من السوري عام 2011؟
وطبعاً الآن وخلال الكارثة الاقتصادية الحالية الوضع أسوأ بكثير حيث لا يصل ناتج الدخل القومي السوري إلى 7مليار دولار بسبب التضخم الجامح الكارثي، وهبوط سعر العملة 64 ضعفاً عن مستواها عام 2011 ورزوح أكثر من 90 بالمائة من السوريين تحت خط الفقر، وارتفاع مستوى البطالة إلى أكثر من 80 بالمائة.
يرى فرانسيس فوكوياما في كتابه (الثقة: الفضائل الاجتماعية وتحقيق الازدهار): أن الثقة (Trust) هي كلمة السر في انتقال المجتمعات من حال إلى حال وتطور الدول من وضعية إلى وضعية مغايرة، ويعبر عنه فوكوياما بـ رأس المال الاجتماعي حيث يقوم البشر بالتعامل ضمن إطار منظومة قيمية أساسها الثقة المتبادلة بين الشعب والطبقة السياسية، حيث يقول في كتابه (صفحة 276): ” لكي يعمل النظام الاقتصادي بشكل جيد، يجب أن يكون هناك عنصر هام من الثقة الاجتماعية العامة” فالثقة لها أثرها الإيجابي في تحقيق النمو والازدهار في المجتمعات وهي سبب رئيس في تماسكه وتعاونه فيما بين أعضاء هذا المكون البشري على جغرافيا دولة ما وهي الضمانة الحقيقية للنهوض الاقتصادي والرفاهية المجتمعية حيث يرى فوكوياما أنه كان “يمكن للأمريكيين الاعتماد على حجم كبير من رأس المال الاجتماعي، لتقليل تكاليف المعاملات لإنشاء أعمال كبيرة ومعقدة”، وإن غياب الثقة بين أبناء الشعب الواحد يؤذن بضياع فرص تنموية اقتصادية واجتماعية وخراب البلاد، بسبب ما يطلق عليه علماء الاجتماع: “العجز في رأس المال الاجتماعي”.
فكم تعمل النخبة السياسية في أوطاننا على بناء الثقة بينها وبين الشعب من خلال ممارستها السلطوية؟ وكم تتعرض هذه الثقة لتصدعات بسبب “شبق السلطة” لدى بعض الأحزاب السياسية، رغم أن بعضها أحزاب أيديولوجية تمتهن الكذب على الشعب بشعارات مضللة، وذلك من أجل الوصول إلى السلطة، ثم تصطدم بواقع ضرورة تقديم الخدمات الحقيقية، ووضع الغذاء على طاولة كل ناخب، وخلق فرصة عمل له والعمل على تحقيق آمال أطفاله، ومستقبلهم التعليمي والمهني فضلاً عن الصحي والاجتماعي.
في بلادنا يكثر الحديث عن الصمود والتصدي والوطنية والقومية والشعارات الدينية والتاريخية ويقوم السياسيون بكل نفاق بشتم “الامبريالية” ليل نهار، لكنهم يعقدون معها كل صفقات الأرض التي تضمن بقاءهم في السلطة، ويفتقد السياسيون لأي خطاب اقتصادي وأي مشروع اقتصادي ينهض بالبلاد من واقعها الاقتصادي المزري، وتتحمل الحكومة والجسم السياسي الحاكم المسؤولية وعادة ما يتم معاقبته من قبل الجماهير بعدم التصويت.
إن التسابق على السلطة يجب أن يكون ضمن فضاء التنافس الشريف على خدمة الشعب، اقتصادياً ورفع مستوى الخدمات المقدمة له، وطرح تصور حقيقي لمستقبل الأجيال الاقتصادي والصحي والتعليمي وكل ماعدا ذلك من مماحكات “سياسوية” خرقاء قرفَ منها الشعب يجب أن لا تكون على حساب رفع حصة ناتج الدخل القومي للفرد الواحد، والنهوض باقتصادها ووضعها على المسار الاقتصادي والتنموي الصحيح وهذا لا يتم دون فصل بين السلطات واحترام الإنسان وحفظ كرامته في وطنه، والأهم بناء الثقة بين الناخب الحر وبين تحقيق آمال الشعب الاقتصادية ونهضته وبالتالي تحقيق سعادته وسعادة عائلته على أرضه.
علينا أن نستفيد من دروس التاريخ وخاصة المعاصر منه، وهو أن أية حكومة سورية قادمة في قابل الأيام بعد الحل السياسي أو “الصفقة السياسية”، يجب أن تترك المجال لحكومة فنية تكنوقراط مختصة تنهض بسوريا وتعوضها عن خمسة عقود ضائعة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بعيداً عن التجاذب الحزبي المقرف الذي ملّته الشعوب وسئمت منه، وعلى الشعب السوري أن يتوعد الأحزاب السياسية بثورة أخرى مالم تترك حكومة تكنوقراط سورية تدير البلاد بشكل مهني، لتضع سوريا بمصاف الدول الناهضة اقتصادياً، وتعوّض الشعب المظلوم عما حُرم منه على مدى أكثر من نصف قرن.
أسامة قاضي