يتصدر النقاشات المفعمة بالخلفيات الأيديوليجية إشكالية فهم الأولويات الاقتصادية ما بين القطاعين العام والخاص، وقد يتشنج طرف ضد طرف بشكل “عصبوي” لا مبرر له انتصاراً لشعار أو لفكر من الشرق أو الغرب.
بينما يتعامل علم الاقتصاد بشكل موضوعي مع الأرقام والوقائع والتحليل الاقتصادي بعيداً عن التشنجات “الديماغوجية” والشعاراتية، خاصة أنه لم يعد هنالك نظام اقتصادي في العالم لديه هذا التشنج الحدي بين القطاع العام والخاص، بل تتبع الدول الصناعية والمتمدنة مصالحها وتتمتع بالمرونة الكافية لتحدد حاجاتها من الخدمات دون دوافع أيديولوجية، حيث لا توجد دولة صناعية لايوجد فيها قطاع عام ولكنه لا يتدخل في أية صناعة أو تجارة أو زراعة إنما يكتفي برسم السياسات ومراقبة عمل الأسواق ويوظف المواطنين في القطاع العام في الخدمات العامة.
يوظف القطاع العام 20.2 مليون شخص في الولايات المتحدة، أي ما يقرب من 14.5 بالمئة من القوة العاملة، وينقسم التوظيف في القطاع العام عموماً إلى ثلاث فئات: الحكومة الفيدرالية وحكومة الولاية والحكومة المحلية، وأكبر قسم للتوظيف في القطاع العام في الولايات المتحدة هو الحكومة المحلية التي تضم 63.5 بالمئة من وظائف القطاع العام. يتركز موظفو الدولة والموظفون المحليون في التعليم (52 بالمئة)؛ الصحة والسكن والرعاية (14٪)؛ والسلامة العامة (12 ٪).
تشمل الخدمات الأخرى التي يقدمها موظفو الولاية والموظفون المحليون النقل والمرافق والخدمات البيئية ويمكن العثور على الموظفين الفيدراليين في خدمة البريد الأمريكية (USPS) (31 ٪)، يتبعهم الدفاع والعلاقات الدولية (27٪)، وتشمل المجالات الأخرى ذات المشاركة الفيدرالية المهمة: الصحة والإسكان والرفاهية العامة (14٪) والبيئة (8٪)، لكن القطاع العام في الولايات المتحدة لا يتدخل في الحياة الاقتصادية بشكل مباشر عن طريق شركات حكومية على طريقة حكومات العالم الثالث.
كذلك الأمر في أوروبا ودول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية حيث بلغت دول الشمال مثل الدنمارك والنرويج والسويد مستويات توظيف عالية في القطاع العام الوصول إلى ما يقرب من 30٪ أو أكثر من إجمالي العمالة، ومن جهة أخرى، دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من آسيا وأميركا اللاتينية تعتمد بشكل أقل على موظفي القطاع العام، يوظف القطاع العام الياباني نحو 8٪ فقط من إجمالي العمالة، بينما تشيلي والمكسيك تلك النسبة تزيد قليلاً عن 10٪، وبشكل عام ارتفع توظيف القطاع العام بشكل طفيف بين عامي 2009 و2013 في جميع دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من 21.1 إلى 21.3 ٪.
يُصدر البنك الدولي مؤشر فعالية الحكومة من بين 5 مؤشرات أخرى للحوكمة في جميع أرجاء العالم
يهتم الاقتصاديون بمؤشر فعالية الحكومة، وتتجسد فعالية الحكومة “كفمرنت إيفيكتفنس” عبر التصورات المتعلقة بجودة الخدمات العامة ونوعية الخدمة المدنية ودرجة استقلالها عن الضغوط السياسية، ونوعية صياغة السياسات وتنفيذها، وصدقية التزام الحكومة بهذه السياسات، وهو مؤشر وضعته مجموعة البنك الدولي، ويقيس جودة الخدمات العامة والخدمة المدنية وصياغة السياسات، وتنفيذ السياسات، وصدقية التزام الحكومة برفع هذه المؤشرات.
يشمل هذا المؤشر 193 دولة مرتبة من -2.5 (أقل فعالية) إلى 2.5 (أكثر فعالية) إنه واحد من مجموعة واسعة من مؤشرات الجودة الحكومية، حيث يُصدر البنك الدولي مؤشر فعالية الحكومة من بين 5 مؤشرات أخرى للحوكمة في جميع أرجاء العالم: الصوت والمساءلة، والاستقرار السياسي، والجودة التنظيمية، وسيادة القانون، ومكافحة الفساد.
المهم قبل البدء بالجدل البيزنطي حول أهمية واحد من القطاعين على الآخر هو تحديد جغرافية مكان نشاط هذا القطاع، بمعنى آخر، هل نتحدث عن القطاع العام والقطاع الخاص في مصر أم سوريا أم العراق أم المغرب أم أميركا أم النرويج؟ بعد تحديد جغرافية النطاق الحيوي لممارسة نشاط أحد القطاعين علينا أن ندرس درجة الحوكمة الرشيدة وفعالية الحكومة في ذلك البلد لأن القطاع العام بطبيعته امتداد للحكومة وأدائها وفعاليتها، وسينعكس بالضرورة على القطاع العام الصناعي أو الزراعي أو الخدمي.
أعلى معدلات الفاعلية الحكومية لعام 2019 كانت في سنغافورة التي حققت 2.22 من أصل 2.5 على مؤشر فعالية الحكومة ثم تلتها سويسرا ثم الدنمارك ثم فنلندا ثم النرويج والسويد وهولندا وهونغ كونغ وكندا بينما كانت أسوأ البلدان هي اليمن والصومال وهاييتي وليبيا وأرتيريا وسوريا وكوموروس والكونغو والسودان وتشاد، وبناء عليه فإنه قد لا يكون هنالك خوف على كبر حجم القطاع العام، كما في النرويج وسنغافورة الذي قد يصل إلى 32 بالمئة من العمالة الوطنية، ولكن هنالك مخاوف من فشل إدارة 30 بالمئة القطاع العام في سوريا.
قام أنتونيو أفونسو ومجموعة من الباحثين بدراسة حول “كفاءة القطاع العام: مقارنة دولية” وقاموا بتطوير مؤشرات أداء وكفاءة القطاع العام لـ23 دولة صناعية، مستخدمين لهذا الغرض مؤشرات واجتماعية واقتصادية كنماذج للأداء وقاموا باستنتاج أن البلدان ذات القطاعات العامة الصغيرة كانت معدلات الأداء الاقتصادي فيها أفضل، وهذا في الدول الصناعية حيث مؤشرات الفعالية الحكومية عالية، بينما في الحكومات التي شبعت فشلاً في أدائها الاقتصادي والفساد يضرب أطنابه سيكون القطاع العام كارثياً وأذى تلك الحكومات سيصل إلى القطاع الخاص.
إن المهم هو تأمين أجواء الحكم الرشيد أولاً وتأمين الأجواء المستقرة والجاذبة للاستثمارات الوطنية والأجنبية، وبعدئذ تقوم مجموعة من المختصين بدراسة كفاءة القطاع العام، وتحديد أفضل السبل للتعامل معه سواء تقويته وتنشيطه أو الاشتراك بإدارته مع القطاع الخاص أو التنازل عنه للقطاع الخاص وبيعه بقيمة مجزية، وتتدخل هنا عناصر معيارية من مثل حجم فرص العمل التي توفرها شركة القطاع العام، ومدى مساهمتها في رفع كفاءة العامل وحجم المبيعات وقوة منافستها محلياً وعالمياً، بعد التأكد من عدم وجود فساد إداري، وتوفر أرقام حقيقية حتى يجرى تحليلها من قبل محللين ماليين احترافيين.
القطاع الخاص المصري مثلاً يساهم بنسبة 70٪ من الناتج المحلي الإجمالي ويستحوذ على 70٪ من فرص العمالة والتوظيف، بينما تموضعت مصر في المرتبة 120 من أصل 193 دولة على مؤشر فعالية الحكومة حيث كان المؤشر -0.42 سالباً! فأية فعالية سترتجى من قطاع حكومي فعالية حكومته سالبة؟ عندئذ يبقى الجدل حول القطاع العام أو الخاص عقيماً لأن النتيجة الطبيعية هو أن القطاع العام سيكون باباً من أبواب الفساد والهدر لأن أدوات الحكومة البيروقراطية لا تساعد على ذلك، ولعل الحكومة أدركت ذلك لذا فإنها سمحت للقطاع الخاص بأخذ المبادرة في القطاع الدوائي حيث يتركز إنتاج الدواء في مصر بيد القطاع الخاص بنسبة 94٪ من إجمالي الاستثمارات حيث ينتج 80٪ من الأدوية في مصر، مقابل 6% للقطاع الحكومي الذي ينتج 20٪ من الأدوية، حيث يوجد في مصر 350 منشأة لصناعة مستحضرات الدواء، يعمل فيها نحو 84.6 ألف عامل، تمتلك الحكومة منها 3٪ فقط، مقابل97٪ مملوكة للقطاع الخاص.
كانت سوريا تتموضع في المرتبة 134 من 193 دولة من حيث الفعالية الحكومية والمؤشر -0.66 سالباً
وكذلك في سوريا عام 2008 حيث كانت سوريا تتموضع في المرتبة 134 من 193 دولة من حيث الفعالية الحكومية والمؤشر -0.66 سالباً (قبل الانتفاضة السورية عام 2011) وبلغت مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي 60‐65٪ وكان مسؤولاً عن خلق 70٪ من فرص العمل الجديدة وكانت حصته من إجمالي الصادرات تساوي 50٪ عام 2005 وارتفعت إلى 60٪ عام 2008 ، ومن الطبيعي أن القطاع العام في واحدة من أفشل خمسين حكومة في العالم من حيث الفعالية أن يكون قطاعها العام باباً من أبواب الفساد وإهدار المال العام، بل إن صادرات القطاع العام السوري (ماعدا النفط) عام 2010 قبل الثورة السورية هو 88 مليار ليرة سورية بينما القطاع الخاص 280 مليار ليرة سورية!
ومن الطبيعي أن بيع القطاع العام السوري -كما كانت نية الخطة الخمسية الحادية عشرة- واللجوء للتخصيص سيكون على الأغلب مشوباً بالفساد لصالح طغمة اقتصادية -عسكرية- أمنية ممسكة بخناق الاقتصاد السوري ولن تكون أمينة في بيع القطاع العام كما لم تكن أصلاً أمينة على تشغيله وهدرت المليارات من المال العام دون طائل ودون حسابات جدوى اقتصادية.
أتذكّر أنه جمعتني عام 2004 محاضرة مع الدكتور عصام الزعيم رحمه الله الذي كان وزيراً للتخطيط في سوريا، وكان ضحية الفساد الحكومي في سوريا وتمت محاربته بطريقة وقحة بسبب نزاهته، وكان يدافع عن دور القطاع العام وقلت له حينئذ: صديقي أنت تدافع عن قطاع عام في حكومة أنت أول ضحاياها ولا تدافع عن قطاع عام في ألمانيا! وتمنيت عليه أن يخفف من حماسته العقدية اليسارية للقطاع العام في أجواء الفساد والبيروقراطية الموجودة آنذاك؛ لأنها بالأرقام بابٌ واسعٌ من أبواب الفساد والهدر على مدى خمسة عقود.
علينا الاتفاق على أن الأهم هو درجة كفاءة القطاع العام والتأكد من توفر الرشادة في الأداء الحكومي والتأكيد على اتخاذ قرار موضوعي يسيصب في صالح المواطن ورفع مستواه المعيشي وزيادة الدخل القومي، وخلق فرص عمل من دون تعصب لفكر يساري متمسك بالقطاع العام وكأنه عقيدة لا يجوز المساس بها على طريقة كوبا التي توظف 77٪ من قوة عملها في القطاع العام الذي شبع فشلاً.
إن إدارة القطاع العام تندرج تحت الإدارة العامة وتدور معه حيث دار، فإدارة القطاع العام لن يكون ناجحاً في دولة فاشلة إدارياً وغارقة في الفساد الإداري والمالي، والقطاع العام في دول العالم المتحضر يتجنب الدخول في المشاريع الاقتصادية ويلعب دورا توجيهيا، ويسنّ القوانين التي تحفظ حقوق العمال، وترعى صحتهم وترفع من كفاءتهم.
يجب أن يكون القطاع الخاص هو قاطرة التنمية الاقتصادية، من دون إغفال دور الحكومة التوجيهي لمنع الاحتكار والابتزاز بوجود حكومة رشيدة وحرية اقتصادية وفصل بين السلطات وإعلام حر وقضاء مستقل ينصف المظلوم خاصة في عالم الأعمال، ففي الدول الفاشلة اقتصادياً وإدارياً وغارقة في الفساد والمحسوبية كلا القطاعين العام والخاص سيُكتب لهما الفشل ولن تقوم لتلك الدول قائمة مهما تبجحت بالتمسك بشعارات للتصدير الإعلامي الفارغ، فهي حتماً ستشوه الليرالية الاقتصادية بنفس درجة تشويهها لشعارات الاشتراكية!