هنالك مدرستان في تعريف الطبقة الوسطى فهي إما تعريف موضوعي كمي تراكمي يأخذ بعين الاعتبار المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية مثل الدخل والتعليم والمهنة في تصور بناء الطبقة، أو تعريف ذاتي يعتبر الطبقة الوسطى هي سمة مبنية اجتماعياً، حيث يكون التماهي مع الطبقة الوسطى تعتمد على وعي الفرد بالانقسامات الطبقي، وبروز هذه الانقسامات وانتمائه إلى الطبقة الوسطى.
يمكن إرجاع أصل النهج الذاتي إلى أرسطو الذي اعتقد أن الطبقات كيانات ذاتية وليست موضوعية. حيث يكون الفرد عضواً في طبقة، وفقاً لطريقة التفكير ولا تحدده الخصائص المادية من أي نوع، مثل الثروة أو الدخل، أو على الأقل لم يتم تحديده بالتأكيد من قبل هكذا مميزات، وإن أعضاء الطبقة الوسطى يكتسبون مكانتهم فيها من خلال التفكير في أنفسهم فوق الطبقة الدنيا وتحت الطبقة العليا في أدبيات الديمقراطية، اعتبرت الطبقة الوسطى عاملاً قوياً للانتقال الاجتماعي السياسي نحو الديمقراطية وحجر الزاوية للحكم الديمقراطي، وتشير النتائج إلى أنه حيثما تكن الطبقة الوسطى متنوعة وقوية، فإن هناك احتمالات أكبر لأن تكون البلاد ديمقراطية مستقرة؛ والعكس بالعكس.
وتشير النتائج أيضا إلى أن التنمية الاقتصادية لا تؤثر بشكل مباشر على الوضع الديمقراطي، بل تعمل من خلال الطبقة الوسطى على إحداث تأثيرات غير مباشرة، وهذه النتائج لها آثار مهمة على دور الطبقة الوسطى في الديمقراطية، كان أرسطو يفضل قيام طبقة وسطى واسعة إذ اعتبر أن الثورات عادة ما كانت تندلع عندما تصبح أعداد الأغنياء والفقراء متساوية على جانبي طبقة وسطى.
أشار سميث 1776 الأب الروحي لعلم الاقتصاد إلى أن طبقات مختلفة من المجتمع تُسهم في تراكم ثروة البلد، بما في ذلك أصحاب الأراضي، والمزارعون، والعمال، والمصنعون، والحرفيون، والتجار الذين كانوا يتواجدون في وسط سلم الثروات. إن دراسة سلوكيات الاستهلاك لدى الطبقات المختلفة خطوة رئيسية في عملية تحديد مفهوم الطبقات، حيث إنه حسب ستيغلتر “الطبقة الوسطى معروفة أنها المجموعة التي دفعت باتجاه إحلال سيادة القانون وتوفير التعليم العام للجميع وإنشاء الضمان الاجتماعي”.
يشير الاقتباس الشهير لبارينجتون مور، من كتابه الصادر عام 1966 “الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية”، “لا برجوازية، لا ديمقراطية” إلى القوة التي تتمتع بها الطبقة الوسطى في عملية التحول الديمقراطي. حيث نظر مور إلى التحولات السياسية في ثمانية بلدان مختلفة، وكيف تأثرت الثورات من حيث بدأت عندما بدأت الطبقة الوسطى عملية الثورة، كانت النتائج ديموقراطيات رأسمالية، في حين جلبت الثورة من الأعلى الفاشية ومن الأسفل جلبت الشيوعية.
تُعدّ الطبقة البرجوازية بحق القوة الدافعة للديمقراطية، حيث أكد ماركس أن هذه الطبقة كانت الفاعل الرئيسي في إقامة الديمقراطية الرأسمالية خلافاً للأرستقراطية الرجعية. وردد “مور” حجة ماركس في الإشارة إلى أنه “يمكننا ببساطة تسجيل اتفاق قوي مع الأطروحة الماركسية القائلة بأن الطبقة النشطة والمستقلة من سكان المدن كانت عنصراً لا غنى عنه في نمو الديمقراطية البرلمانية. بلا برجوازية لا توجد ديمقراطية “. No bourgeois, No democracy
بصفتهم أصحاب شركات ومصانع متوسطة وكبيرة الحجم، فإن البرجوازية لها مصلحة في حماية ممتلكاتها وتقليل تدخل الدولة في السوق، وأن تعيش في ظل دولة قانون تحمي ممتلكاتهم وتنظم عقودهم وتشريعات يضمن حرية الأسواق والحد الأدنى من التدخل الحكومي، ونظام قضائي عادل، وهي البيئة المناسبة لازدهار الأعمال والمصالح التي تخلق فرص عمل وتنهض باليد العاملة، وتزيد ثرواتهم التي تؤدي إلى تراكم رأسمالي لازم لنهوض الاقتصاد الوطني، والتوجه الحديث هو الحفاظ على طبقة وسطى موسعة في المجتمعات الغربية الحديثة، وخاصة فيما يتعلق بضرورة وجود قوة عاملة متعلمة مستوعبة لاقتصاديات التكنولوجيا.
وقد عدت الأمم المتحدة أن “الطبقة الوسطى قوة محركة لتحسين مقومات الحكم والمساءلة لأنها الطبقة الرئيسية التي تدفع الضرائب وتسجل مستويات عالية من المشاركة في الحياة السياسية، ولذلك ينبغي أن يؤدي توسع هذه الطبقة إلى ازدياد المطالبة بمساءلة الحكومة وإرساء الديمقراطية”.
يعتمد دور الطبقة الوسطى في تعزيز الديمقراطية على قوتها النسبية في الهيكل الطبقي، وتحدث الديمقراطية -برأي غلاسمان- فقط عندما تكون الطبقة الوسطى كبيرة
قام الكثير من الباحثين (لوبيرت وهنتغتون وروشماير وغلاسمان…) بتحديد الطبقة الوسطى على أنها الطبقة التي تستمر بدفع المجتمع نحو تحقيق الديمقراطية، وأقّر “لبيست” أن هذه الطبقة يُفكّر أفرادها ويتصرفون بطريقة ديمقراطية، ولديهم مواقف داعمة لمبادئ الديمقراطية.
كما يؤكد غلاسمان على أنه على عكس البرجوازية، تفتقر الطبقة الوسطى إلى رعاة سياسيين أقوياء لحماية مصالحهم وملكياتهم، مما يجعل الطبقة الوسطى مدعاة لتحكم السياسيين، وبالتالي يتعين على أعضاء الطبقة الوسطى الاعتماد على المؤسسات الديمقراطية مثل الانتخابات الشعبية للقيادة، والحماية الدستورية للحقوق الفردية لحماية حقوقهم وممتلكاتهم ضد أي قوى أخرى مثل الحكومة ومسؤوليها.
يعتمد دور الطبقة الوسطى في تعزيز الديمقراطية على قوتها النسبية في الهيكل الطبقي، وتحدث الديمقراطية -برأي غلاسمان- فقط عندما تكون الطبقة الوسطى كبيرة. ومع ذلك، فإن الطبقة الوسطى لم يكن من الضروري أن تكون في الأغلبية العددية الفعلية، وبدلاً من ذلك، يجب أن تكون كبيرة ومزدهرة بما يكفي لتكون متحالفة مع الطبقات الفقيرة، من أجل موازنة قوة الأغنياء، وفي بعض الأحيان ينضم للطبقة الوسطى قلة من طبقة الأغنياء غير النافذة سياسياً ويدفع تعاون الطبقتين إلى إقامة نظام سياسي ديمقراطي قانوني وهذا ما حدث في التجربة الديمقراطية الأمريكية حيث فيها الأغنياء كانوا ضعفاء سياسياً نسبياً، والفقراء يسهل استيعابهم في الطبقة الوسطى، والطبقة الوسطى المتحرّقة لإقامة حكومة ديمقراطية وقانونية جعلت نجاح التجربة الديمقراطية ممكناً. ويعتقد “روشماير” أن الطبقة الوسطى ستدفع المجتمع من أجل الديمقراطية الكاملة أثناء مواجهتهم الطبقات المهيمنة المتعنتة حيث لديهم خيار متاح وهو التحالف مع طبقة عاملة كبيرة.
وحسب الأمم المتحدة فقد “اعتبر كثيرون في مجال اقتصادات التنمية الناشئة تقريباً أن الطبقة الوسطى كانت القوة المحركة للثورة الصناعية والتنمية الاقتصادية في أوروبا في القرن التاسع عشر”، كما عدّ صندوق النقد الدولي أنه “من واجب الدول أن تتيح لمواطنيها سلّماً يمكنهم تسلقه للخروج من ربقة الفقر ودخول الطبقة الوسطى، وبالطبع مواصلة الارتقاء حتى إلى أبعد من هذه النقطة”.
الكثير من الاقتصاديين يؤكدون أن التنمية الاقتصادية تعزز مكانة الطبقة الوسطى في المجتمع وتغير هيكل التقسيم الطبقي الاجتماعي من الشكل الهرمي، حيث إن غالبية المجتمع من الطبقة الدنيا من حيث الدخل بينما تحول التنمية هذا الشكل الهرمي إلى شكل ماسي بحيث إن غالبية السكان من الطبقة الوسطى.
بلغت نسبة الطبقة متوسطة الدخل في عام 2010 في الدانمرك والنرويج 80 بالمائة، وهولندا 79%، وفنلندا ولوكسمبورغ 75 بالمائة، وفرنسا 74%، وألمانيا 72%، وكان أخفضها الولايات المتحدة 59%.(حسب مركز بو للأبحاث).
لقد تقلصت الطبقة الوسطى في سوريا –حسب الأمم المتحدة 2014- إلى النصف تقريبا من 56.5% في عام 2007 إلى 26% في المئة في عام 2014
أعتقد أن الأنظمة الديكتاتورية -والنظام السوري ليس استثناء– تُدرك أهمية الطبقة الوسطى ودورها في “دمقرطة” المجتمع ودفعه نحو المطالبة بحقوقه وتطبيق القانون نحو توزيع أفضل للثروة، ونحو عدالة مجتمعية، لذلك وجبت عندهم محاربة الطبقة الوسطى والعمل على تقليصها، وتلويثها بالفساد عن طريق الإمساك بخيوط اللعبة الاقتصادية حكومياً عن طريق واجهات تبيض الأموال الحرام التي جنتها واجهاتهم عن طريق الفساد والظلم، والأنكى إصدار قوانين جائرة كالتأميم الذي نفّر البرجوازية الوطنية وأفقرها من أمثال مشاعل البرجوازية الوطنية السورية: أصفر ونجار، وصائم الدهر، والططري، والخجا ودياب وسعادة وغيرهم… أو قيام السلطة الديكتاتورية الفاسدة بسنّ تشريعات تناسب مصالح الطبقة الطفيلية الفاسدة، مما يصيب البرجوازية الوطنية بمقتل.
ما تبقى من برجوازية وطنية ستكون أمام خيارين، إما النأي بالنفس عن ممارسة النشاطات الاقتصادية الكبيرة والمؤثرة خشية ملاحقة مؤسسات أمنية متحالفة عضوياً مع “واجهات الأعمال” الفاسدة إضافة لتضييق مؤسسات قانونية حكومية تعمل كأداة لتثبيت مكانة الفاسدين وتسهيل أمورهم، وبالتالي تنكمش البرجوازية الوطنية التي تستثمر الثروات المالية والبشرية الوطنية والتي تخلق فرص عمل وتنهض بالمستوى المعيشي للطبقة الوسطى وتتيح له الاستفادة من الخبرات الدولية في الإنتاج الوطني بمعايير دولية. أما الخيار الآخر فهو الانضمام لجوقة الأعمال الفاسدة والقبول بنسب فساد كبيرة وصغيرة للحفاظ على مكانتهم المجتمعية ومالهم من الضياع، وكانت الشركات القابضة السورية نموذجاً حياً على تلويث ما تبقى من البرجوازية الوطنية وتدمير الطبقة الوسطى السورية.
لقد تقلصت الطبقة الوسطى في سوريا –حسب الأمم المتحدة 2014- إلى النصف تقريباً من 56.5% في عام 2007 إلى 26% في المئة في عام 2014، والطبقة الوسطى السورية كانت تتقلص بنسبة 9% سنوياً.
وصلت سوريا عام 2021 إلى وضع كارثي، حيث الدخل الرسمي لرئيس الوزراء ورئيس مجلس الشعب ونائب رئيس النظام والوزراء ما بين 200 و 233 ألف ليرة سورية يعادل اليوم حوالي أقل من 60 دولاراً (سعر الليرة في مارس 2021 = 3700 ليرة للدولار) بمعنى أن أعلى راتب في الحكومة هو أقل من دولارين يومياً وهو خط الفقر حسب تعريف الأمم المتحدة! فما بالك بأكثر من مليون ونصف موظف الذين تتراوح دخولهم الشهرية ما بين 10 – 30 دولاراً شهرياً! ونسب البطالة أكثر من 70 بالمئة! لامعنى في سوريا اليوم لكلمة “البطالة” التي يعمل فيها السوري أكثر من نصف يومه وهو لايزال لا يجد قوت يومه فضلاً عن شح الوقود والكهرباء والخبز وغلاء الأسعار، وبذلك فإن القوة العاملة السورية باتت بمثابة “عمال سخرة”!
تم هنالك انزياح كارثي في طبقات المجتمع السوري الذي بات بتقديري اليوم 60 بالمئة منه تقريباً ضمن الطبقة الفقيرة، و25% الطبقة المدقعة الفقر التي تتضور جوعاً، وأقل من 10% أدنى موقع في الطبقة الوسطى، و 5% من الميسورين، وهذا لا ينعكس فقط على تدمير بنية المجتمع السوري حالياً، ولكن انعكاساته الخطيرة على مستقبل سوريا حتى بعد الحل السياسي الذي لا يبدو أنه قريب ضمن التقسيم الواقعي لمناطق النفوذ الثلاثة في سوريا الروسي والأمريكي والتركي، بانتظار التقسيم الذي يبدو أن الدول ستتأخر بالإعلان عنه، وهي تطالب بـ “وحدة” الأراضي السورية والمقصود بها أن سوريا موحدة شرط “بقاء مناطق النفوذ”!.
إن إعادة تشكيل الطبقة الوسطى السورية على أسس علمية وتقنية ومعرفية وأخلاقية سيكون مهمة شاقة جداً، والمهمة الأكثر صعوبة إعادة تكوين طبقة بورجوازية وطنية سورية، واستعادة ما تبقى منها سواء في الخارج أو بعض من في الداخل السوري ممن أصابهم أقل نسب التلوث الأخلاقي والاقتصادي في حقبة الديكتاتورية والظلم الاجتماعي والاقتصادي، وتأسيس عقد جديد بين المجتمع والحكومة الانتقالية القادمة وفتح صفحة بيضاء جديدة مع البرجوازية الأقل تلوثاً في الفساد والتوافق على تسوية أوضاعهم الضريبية والمالية من أجل إعادة لحمة الاقتصاد الوطني والنهوض به لغرض خلق فرص عمل من خلال تشجيع كل القطاعات الاقتصادية والدفع بعجلة النمو الاقتصادي… أعلن تعاطفي من الآن مع أول حكومتين انتقاليتين بعد الحل السياسي لشدة هول وحجم التركة الثقيلة والمشكلات البنيوية التي ستواجهها، وأدعو الشعب السوري إلى التعاطف مع أول حكومتين انتقاليتين والصبر على قطف ثمار الترميم والإعمار وإعادة الإعمار وإعادة بناء اقتصاد وطني حقيقي وإعادة بث الحياة في جنبات الجسد الاقتصادي السوري المنهك وإعادة تشكيل طبقات المجتمع مهمة بالغة الصعوبة والتعقيد وتستغرق وقتاً ليس بالقليل.