بروكار برس – د. أسامة قاضي
لم يكن يخطر في بال الاقتصاديين السوريين يوماً أنه سيأتي يوم تكون هنالك موازنة سورية أكبر من التي شهدها عام 2010، وبلغت حينها 754 مليار ليرة سورية، أي ما يعادل 16.5 مليار دولار. وظلت الموازنات السورية ترتفع منذ ذلك الحين بسبب سوء إدارة الاقتصاد والسياسة معاً، مصحوباً بالفساد والإهمال والمحسوبية، وزاد عليه تدويل القضية السورية، والحرب بالوكالة على أرضه، حتى وصلت موازنة عام 2020 إلى 4 تريليونات ليرة سورية، ولكن هذه المرة قيمتها الحقيقية فقط 6.2 مليار دولار، وهي الأخفض منذ عقود في تاريخ سوريا. ولكنه بناء على تمترس المصرف المركزي عند السعر غير الحقيقي 434 ليرة للدولار، يصور رقم الموازنة أنه 9 مليار دولار، بينما لا يمكن للمصارف السورية أن تبيع أي صناعي، أو تاجر سوري، مليون دولار بالسعر الوهمي للمصرف المركزي، ليضطر إلى اللجوء للسوق السوداء بسعر 635 ليرة سورية للدولار.
الجدير بالذكر أن موازنة 2019 عندما أعلن عنها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، كان سعر الدولار 503 ليرة للدولار، وانخفض هذا السعر إلى 630 – 640 ليرة للدولار في أيلول/ سبتمبر 2019، بمعنى أن حجم الموازنة انخفضت قيمتها الفعلية من 7.3 مليار دولار إلى 6.1 مليار دولار، أي خسرت الموازنة أكثر من مليار دولار بأثر فعلي في الاقتصاد السوري خلال أقل من سنة. فيا ترى كم سيكون حجم موازنة 2020 الحقيقية في سبتمبر 2020؟ على الأرجح أن قيمة الموازنة الحقيقية في الحد الأدنى ستصبح 5 مليار دولار، بسبب الانهيار المتزايد للعملة السورية التي لا يساندها إلا النذر اليسير من النشاط الاقتصادي المتعثر، وبعض ما تبقى من زراعة حمضيات، بعدما خسر موارد السلة الغذائية والنفطية في شمال وشمال شرقي سوريا، إضافة إلى خسارة سوريا موانئها، والحصار المطبق عليها، وعلى حلفائها.
اللافت في موازنة 2020، كما أعلن عنها المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي السوري، أن حجم الدعم الاجتماعي والاقتصادي الحكومي انخفض من 811 إلى 373 مليار ليرة سورية، وهذا معناه انسحاب الحكومة السورية من مسألة الدعم بشكل أكبر، وربما ينعدم ذلك في موازنة 2021، وهذا معناه ارتفاع أسعار كثير من المواد المدعومة سابقاً، من وقود وغاز وخبز وكهرباء، وغير ذلك.
الجدير بالذكر أن دعم 811 مليار ليرة (1.6 مليار دولار) في موازنة 2018 لم يكن كافياً أصلاً، وتعرضت ولا تزال مناطق نفوذ النظام لاختناقات اقتصادية، ومعاناة للأهالي في الوقود والغاز والخبز، فما بالك لو علمت أن قيمة الدعم الاجتماعي سينخفض إلى 373 مليار ليرة (حوالي 600 مليون دولار فقط)، وهي موزعة على الدقيق التمويني، والإنتاج الزراعي، والمشتقات النفطية، والصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية.
أمام الضغوط المفروضة على النظام لدفع بعض من الديون التي اقترضها من روسيا وإيران، وجد النظام أمام خزائن المصرف المركزي من العملات الأجنبية، وحرمان “الاقتصاد السوري” من موارده، أنه لا مفر من الاقتراب من الملفات الخطيرة، واستعادة جزء من الأموال المنهوبة من الشعب السوري، التي ستساهم في تصدع آخر الجدر المالية التي بقيت حول رأس النظام، والاقتراب من ملفات عائلة مخلوف العريقة في النهب منذ عقود، أيام “شركة الريجي”، وما قبلها وبعدها إلى يومنا هذا، عبر شركات كثيرة أهمها شركة سيرياتل.
ربما التجرؤ على شركة “سيرياتل” الذي يقترب من أكبر دخل لرأس النظام يقتسمه مع آل مخلوف لا يفسرها إلا الضغط الإيراني الذي يدفع في اتجاه إعادة إحياء عقد سابق مع مشغل إيراني ثالث لشبكة اتصالات خليوية. وكان رئيس الوزراء السوري، عماد خميس، قد زار طهران في بداية 2017، ووقع مذكرات تفاهم تتعلق بتشغيل شركة إيرانية قريبة من “الحرس الثوري”، لمشغل ثالث للخليوي (إم سي آي)، وبسبب أن الشريك السوري المحلي للمشغل الإيراني، كما ظهر في الصفقة المؤجلة في العام 2016، هو رجل الأعمال السوري محمد حمشو؛ الواجهة المالية لشقيق الرئيس القوي ماهر الأسد كان لا بد من وصول ما سمي بـ”حملة الفساد” إلى رأس حمشو نفسه. ويؤكد الضغط الايراني أن تزامن حملة “مكافحة الفساد” جاء قبيل 18 سبتمبر 2019، وهو وقت إعلان كشف وزير الاتصالات والتقانة، إياد الخطيب، عن بعض تفاصيل المشغل الخلوي الثالث في سورية.
هذه الحملة تجاوزت حوالي عشرين شخصاً من حيتان الفساد إلى حوالي 300 من الدائرة المحيطة بهم، كونهم آخر مصادر للنظام لجني ما بقي في أيديهم من أموال لتقديمها بين يدي الروس كفروض للطاعة، ورد بعضاً من الجميل، الذين لا يوفرون مناسبة لتذكير النظام بفضلهم على بقائه على كرسيه، وربما إذلاله، لكن كل ما يستطيع النظام بدعم روسي إيراني من تحصيله لا يمكن أن يتجاوز ملياري دولار، أو 1.2 تريليون ليرة سورية. أما الطرفة التي ذكرتها إحدى الصحف المقربة من النظام فتمثلت في أنه تم دفع كل ديون سوريا الخارجية، وقيمتها 23 مليار دولار، بينما أنفق المصرف المركزي مبلغ الـ17 مليار دولار منذ أعوام، وتقصد تلك الصحيفة أن سوريا دفعت 14.7 تريليون ليرة سورية! والطرفة الأكبر أن النظام حجز في حمبته على حيتانه 275 مليار دولار من 150 رجل أعمال سوري بتهمة الفساد، بمعنى أن النظام حصل من الفاسدين 176 تريليون ليرة سورية! بينما موازنة سوريا كلها 4 تريليون ليرة سورية!
لا يعقل أن يحتفظ أي فاسد من الوزن الثقيل بأمواله في سوريا، خاصة وأن أول درس يعرفه تجارالحروب والفاسدين هو أن عليهم إيداع أموالهم خارج منطقة الحرب، وتسجيلها بأسماء آخرين، وشركات وهمية، وتجهيز أنفسهم للهروب في أي لحظة تتغير فيها الظروف الاستثنائية، وإن كان بعضهم وجد في لبنان مأمناً لأمواله، فإنه عرف الآن أن يد النظام الطولى في لبنان عبر حلفائه هناك ستحول المصارف اللبنانية إلى مصارف غير آمنة بالنسبة للفاسدين، وستكون تلك الأموال عرضة للاسترجاع، وهذا ما حدث على الأغلب، حيث تم تحويل كمية هائلة من الدولارات خلال أيام بطريقة أثرت على الليرة اللبنانية، التي انخفضت في يوم واحد من 1507 إلى 1800 ليرة لبنانية للدولار في 16 أيلول/ سبتمبر 2019، وكأن الصيرفة اللبنانية التي تعرض أكبر بنوكها “جمال ترست” مؤخراً لعقوبات اقتصادية أمريكية ينقصها سحب الأموال “القذرة” من مصارفها بشكل مخيف، بحيث يضع أنصار النظام في لبنان الضغط على حاكم المصرف المركزي اللبناني كي يتدخل ويدفع ثمن سياساتهم الرعناء على حساب احتياطي نقدي لبناني ممكن استنفاذه خلال فترة قصيرة لو رضخ للضغوط الهائلة عليه.
الظروف الاقتصادية والمعيشية في مناطق نفوذ النظام تزداد سوءاً، وانسحاب الحكومة من التزاماتها بالدعم اليسير نفسه قد انخفض لأكثر من النصف في موازنة 2020، والعجز المالي سيزيد عن السنوات التي قبلها، وستكون طباعة العملة هي الحل الذي سيلجأ إليه النظام، لأنه لايوجد رجل أعمال، فضلاً عن دولة، تشتري سندات خزينة لاقتصاد مفلس في بلد فيها 39 قاعدة عسكرية لأكثر من عشر دول تقاسمها العالم مناطق نفوذ، وآخر ما كان يمكن أن يفعله النظام إجبار حيتان الفساد على إقراض الحكومة لتكويل الواردات وشراء سندات خزينة لدولة تقترب من الإفلاس، لكن هذا الخيار لم يعد ممكناً بعد التعرض لأموالهم واستثماراتهم “القذرة”.
للأسف، التضخم قادم، وما تبقى من اقتصاد سوري قارب على الإفلاس، والحركة الاقتصادية البسيطة التي كان يشغلها الحيتان الذين قبضوا على مفاصل التجارة والصناعة والزراعة ستتباطأ، أو تتوقف، وهذا ما سيزيد معدل البطالة الذي فاق 70 في المئة، وموازنة 2018 وعدت بخلق 69 ألف فرصة عمل عندما كان حيتان الفساد موجودون، فكيف سيحقق وزير المالية، الدكتور مأمون حمدان، 83416 فرصة عمل في موازنة 2020 كما وعد؟ ومن سيأتي بالموارد إذا كان على سبيل المثال، مدير مالية حلب، محمود الجمل، قد صرّح منذ أيام في 26 أيلول/ سبتمبر 2019 بأن عدد المكلفين بضريبة لأرباح الحقيقية يبلغ 5779 مكلف، منهم 979 قدموا بيانات عملهم للمالية، مقابل 4800 مكلف لم يبادروا بإظهار البيانات، في حين تمت معالجة نحو 1616 ملف تراكم ضريبي عن العام 2017، فلا الحيتان عندهم ما يشتغلونه ليدفعوا ضرائب، ولا صغار المكلفين قادرين على دفع ضرائبهم، فمن أين سيحصل الضرائب؟ هل من السياحة التي صرح رئيس الوزراء سابقاً أنها هبطت إلى الصفر؟
لن أفاجأ لو تم قبول التعامل بالروبل الروسي في مناطق نفوذ النظام السوري، بحيث يصبح كيلو اللحمة بـ 3000 ليرة/ 379 روبل، والجبنة 1500 ليرة/ 179 روبل روسي، والشاي 3500 ليرة/ 443 روبل، والبندورة 400 ليرة/ 50 روبل، ليس لأن الروبل عملة مستقرة، فهو خسر أكثر من 50 في المئة من قيمته ما بين عامي 2014 و2017، ولكن طالما أن سورية ستكون “جمهورية الشيشان السورية”، وروسيا سيطرت على معظم مواردها ومرافئها، وهي تدير الأمن والعسكرة والسياسة والاقتصاد في سوريا، وتتصدر المشهد بالنيابة عن النظام، وتحمي ابنها البار بـ 13 فيتو في مجلس الأمن، فلماذا لا يتم التعامل بالروبل الروسي، كما هو الحال في الشيشان؟