يرى الخبير الاقتصادي الدكتور أسامة القاضي أنه في ظل التدويل الكبير في القضية السورية وخروج السوريين من المعادلة السياسية، فإن أياً من اللاعبين الدوليين الفاعلين في القضية السورية غير مستعجل للخروج منها، والكل يسعى لضمان تعويض خسارته الناجمة عن التدخل في القضية السورية، وفي الوقت نفسه فإن تلك الدول لن تضحي بعلاقتها مع أي دولة، وربما يكون الشريك الوحيد المهدد بالخروج من اللعبة، هو إيران حيث أن إبعادها أقل تكلفة من إبعاد أي طرف دولي فاعل آخر، فعلاقاتها مع الأطراف الروسية والتركية ضعيفة نسبياً، وتعلن عداءها للطرف الإسرائيلي بوصفه لاعباً أساسياً مدعوماً أمريكياً وروسياً.
وفي حوار مع “بروكار برس” يشرح القاضي المصالح الاقتصادية لأهم خمسة لاعبين على الأرض في المعادلة السورية جاليا، وما هي كلغة تدخلهم على الأرض، وكيف يمكن أن يعوضوا انفاقهم العسكري في سوريا على حساب الصفقات المستقبلية وتفاهمات فيما بين الأطراف ذاتها.
وإليكم نص الحوار الغني بالأرقام والتفاصيل.
ما هي موازين القوى الاقتصادية للقوى المنخرطة في الصراع السوري (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل)، وكيف يمكن أن يكون لهذه الموازيين أثرها في واقع تدخلاتها السياسية في سوريا؟
ـ إن موازين القوى الاقتصادية بين روسيا والولايات المتحدة ترجح لمصلحة الأخيرة من دون أدنى شك، حتى أن ناتج الدخل المحلي لولاية كاليفورنيا وحدها يعادل 2.7 تريليون دولار أكثر منه في روسيا بتريليون دولار، فقد وصل ناتج الدخل القومي لروسيا بحسب أرقام البنك الدولي 1.6 تريليون دولار، أما الولايات المتحدة الأمريكية فناتج دخلها يعادل 20 ضعفاً ناتج الدخل القومي الروسي إذ وصلت عام 2018 إلى 20.4 تريليون دولار.
بلغ ناتج الدخل القومي الإيراني -بملايينها الثمانين- 454 مليار دولار، بينما إسرائيل -التي تقصف المواقع الإيرانية العسكرية في سوريا- بملاينها الثمانية وأقل بعشر أضعاف من عدد سكانها، وصل دخلها القومي إلى 353 مليار دولار، وبتعبير أدق حصة الفرد في إيران هي 5470 دولار بينما في إسرائيل 40850 دولار أي أكثر بسبعة أضعاف.
كذلك الميزان العسكري للولايات المتحدة يرجح روسيا، فقد ذكر تقرير معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام عام 2019 أن ما تنفقه الولايات المتحدة على التسليح وصل 670 مليار دولار، بينما تنفق روسيا 61.4 مليار دولار، بمعنى أن الولايات المتحدة وروسيا كليهما ينفق 3 في المئة من ناتج دخله القومي باتجاه التسلح، ولكن الولايات المتحدة تنفق عشرة أضعاف ما تنفقه روسيا فضلاً عن الفارق التكنولوجي الهائل بين البلدين.
إن موازين القوى الاقتصادية والعسكرية ترجح لمصلحة الولايات المتحدة وحلفائها، لكن هذا لا يفسر فاعلية الروس في العملية العسكرية والسياسية السورية، وإنما يفسر بتخلي الولايات المتحدة عن دورها القيادي في إدارة الملف السوري بوصفه ورقة من أجل إنجاح المحادثات مع إيران من أجل الاتفاقية لوقف التسلح النووي الإيراني في زمن الرئيس أوباما.
هذا يتضح من حجم التدخل الأمريكي الرمزي في الشأن السوري فقد أشار تقرير معهد واتسون الدولي والعلاقات العامة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 أن إجمالي الاعتمادات التراكمية لوزارة الدفاع ووزارة الخارجية / الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وصلت ما بين عامي 2001و2009 إلى 54 مليار دولار (6 مليارات دولار سنوياً)، بينما هي في العراق 822 مليار دولار ما بين عامي 2003 و 2009 (137 مليار سنويا)، وفي أفغانستان 975 مليار دولار ما بين عامي 2001 و 2009 (108 مليار سنوياً)، فالإنفاق العسكري الأمريكي في سوريا هو 22 مرة أقل منه في العراق و أقل بـ 18 مرة عنه في أفغانستان.
إن التكاليف العسكرية الأمريكية في سوريا في معظمها تنفق على بناء القواعد العسكرية والمطارات الأمريكية في سوريا، من مثل تحويل مطار الطبقة إلى قاعدة لطائرات الهليكوبتر، إضافة إلى عشر قواعد عسكرية أمريكية، وكذلك تجهيز أكثر من 2000 جندي أمريكي، فضلاً عن قاعدة التنف التي أُنشِئت عام 2014 بهدف مواجهة ما عرف بـ “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، وهي تقع على بعد 24 كم من الغرب من معبر التنف ( الوليد ) عند المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني، في محافظة حمص.
في المقلب الآخر؛ لا توجد أرقام رسمية دقيقة عن التكاليف العسكرية للتدخل الروسي، ولكن تُقدر تكلفة الغارات الجوية الروسية في سوريا بما يصل إلى 4 ملايين دولار يوميًا، وفقًا لما أوردته بيانات جمعتها صحيفة “ذا موسكو تايمز” من قبل مركز للدفاع، وأن تكاليف غارات القصف وتشغيل الإمدادات والبنية التحتية والأفراد في الشهر الأول (لغاية أكتوبر/ تشرين الأول 2015) كلفت روسيا ما بين 80 و 115 مليون دولار.
البيانات الدقيقة شحيحة، لكن تقارير وسائل الإعلام تقول إن خدمة القوات الجوية وحمايتها تراوح بين 5000 و 6000 فرد على الأرض ، يجري توفيرها عن طريق النقل البحري والجوي عبر البحر الأسود والمجال الجوي الإيراني والعراقي.
ثم إن كل طائرة حربية روسية بحسب معهد هلسنكي تكلف 12000 دولار في الساعة للطيران، وكل طائرة هليكوبتر تكلّف 3000 دولار في الساعة، ومع استمرار وتيرة القصف الذي يُبقي الطائرات في السماء مدة 90 دقيقة في اليوم في المتوسط، وتطير المروحيات ساعة واحدة في اليوم، تنفق موسكو حوالى 710،000 دولار كل 24 ساعة كل يوم حيث يسقطون حوالى 750،000 دولار من الذخائر على الشعب السوري.
يضاف إليها تكلفة الأفراد العسكريين التي تقدر بحوالى 440،000 دولار في اليوم إذ يتطلب الحفاظ على السفن في البحر المتوسط 200000 دولار إضافية والخدمات اللوجستية وجمع المعلومات والاتصالات والهندسة التي تضيف 250،000 دولار يوميًا.
صحيح أن تكاليف التدخل الروسي في سوريا كبيرة ولكنها استطاعت تعويضها ليس فقط عن طريق ضمان الحق الحصري في استثمار النفط السوري والثروة الأرضية، والمرافئ السورية مدة نصف قرن على الأقل، بل كذلك عن طريق بيعها السلاح الروسي الذي استعرضته في سماء سوريا في أثناء إبادتها للشعب السوري، واستخدامها أسلوب الأرض المحروقة، حيث تبوأت مكانة الدولة الثانية في العالم في بيع السلاح عام 2019 إذ بلغت 6.4 مليار دولار (جاءت بعد الولايات المتحدة الأمريكية التي باعت 10.5 مليار دولار).
باعت روسيا أسلحة كثيرة لـ 48 دولة في السنوات الخمس الماضية، وكانت الهند والصين والجزائر أكبر المستوردين.
في المستوى الإقليمي، استأثرت دول آسيا وأوقيانوسيا بنسبة 60 في المئة من صادرات الأسلحة الروسية في المدّة 2018-2014، وأفريقيا بنسبة 17 في المئة، والشرق الأوسط بنسبة 16 في المئة، وأوروبا بنسبة 5.8 في المئة، والأمريكتان بنسبة 1.4 في المئة.
لكن واقع الحال أن الصادرات الروسية من الأسلحة الرئيسية إلى الشرق الأوسط زادت بنسبة 19 في المئة إذا ما قارنا مبيعاتها أعوام ( 2009-2013) و( 2014-2018.(
في المدة 2018-2014، كانت مصر والعراق هما المستفيدان الرئيسيان من صادرات الأسلحة الروسية إلى الشرق الأوسط، فقد استحوذتا على التوالي على 46 و 36 في المئة من صادرات الأسلحة الروسية إلى المنطقة، وقد زادت عمليات التسليم إلى العراق بنسبة 780 في المئة بين ( 2009-2013) و ( 2014-2018)، بينما ارتفعت عمليات التسليم إلى مصر بنسبة 150 في المئة.(بحسب معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام مارس 2019).
وقد أكد وزير الدفاع الروسي (سيرغي شويغو) أن سوريا أرضاً وشعباً كانت في منزلة حقل تجارب، إذ استخلصت روسيا معلوماتٍ كبيرة من “التجربة السورية” وأكد “إنها اختبرت /231/ عينةً من الأسلحة الحديثة والمحدّثة منذ تدخلها في سوريا، حيث أتاحت الحرب –بحسب تعبيره – في سوريا الفرصة للجيش الروسي بتجربة أسلحةٍ جديدةٍ، ووفّرت لشركات السلاح الروسية مراجعاتٍ ميدانيةً لتعديل عددٍ من الأسلحة بناءً على ما كشفته الأرض السورية من عيوبٍ في بعضها”، ولفت شويغو في حديث صحافي -في 22 سبتمبر 2019- إلى أنّه “استناداً إلى نتائج العمليّات القتاليّة في سوريا، كان لدينا بطبيعة الحال استخلاص معلوماتٍ كبير، فقد جرى تعديل وتحديث حوالى /300/ نوع من الأسلحة مع مراعاة التجربة السوريّة، و/12/ نموذجاً واعداً أُزيل من الإنتاج والتسلّح” وبحسب تقريرٍ سابقٍ لصحيفة “ريد ستار العسكرية الروسية”، فإن “/98/ في المئة من طاقم النقل الجوي و/90/ في المئة من طواقم الطيران في الجيش الروسي، وكذلك /60/ في المئة من الطيارين للعمليات بعيدة المدى قد شاركوا بالفعل في العمليات في سوريا”. وأضاف: “الصواريخ المجنّحة من نوع “كاليبر” خضعت للتحديث بعد استعمالها في سوريا، ما ساعد في تقليص زمن تحميل إشارة الإطلاق”.
إن كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بإمكانهما البقاء في سوريا أمداً طويلاً من دون أن يكون لبقائهما تداعيات اقتصادية كبيرة، وبخاصة أن روسيا تعدّ جغرافية سوريا وأهلها صالة عرض لأسلحتها وحقل تجارب تُستخدم لأغراض تسويق السلاح الروسي الذي زاد الطلب عليه بعد دخولها سوريا، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقول صراحةً : “إن الخبرة العسكرية التي اكتسبها الجيش في سوريا ساعدت على تطوير أنظمة أسلحة جديدة، حيث شنت روسيا حملة في سوريا منذ أيلول/ سبتمبر 2015، ساعدت في قلب مجرى الحرب لمصلحة الرئيس السوري بشار الأسد، وقد استخدم الجيش الروسي الصراع لاختبار طائراته الجديدة وصواريخ كروز والأسلحة الأخرى في القتال لأول مرة”.
هل ترى أن قوة الاقتصاد الذي تمثله الولايات المتحدة هو الذي يدعم قوة قراراتها السياسية والعسكرية؟
لا شك في أن الولايات المتحدة الأمريكية تستمد قوتها من قدرتها الاقتصادية والعسكرية الخارقة وتتصرف على أساس أنها إمبراطورة العالم والقطب الأوحد، فهي تنتج 9.3 مليون برميل نفط يومياً، وفيها 13513 مطار (روسيا 1218 مطار)، و33 ميناء (روسيا 8 موانئ)، و 3611 باخرة بحرية تجارية، وتُعد عملتها إلى الآن العملة الأكثر استخداماً في الكون فحجم الدولارات المستخدمة في العالم بمعنى “النقود الضيقة” المادية (الأوراق النقدية، والعملات النقدية، والأموال المودعة في حسابات التوفير أو الشيكات)،حوالى 36.8 تريليون دولار (بعض التقديرات المتحفظة تقدرها بـ 14.8 تريليون دولار).
طبعاً لو توسعنا في تعريف النقود بحيث تشمل “نقوداً موسعة” وهي ليست محض أموال مادية بل تشمل أي أموال محتفظ بها في حسابات يسهل الوصول إليها، فإن الرقم يبلغ حوالى 90.4 تريليون دولار، ولو أردنا التوسع في مفهوم النقود إلى المشتقات فالمبلغ أكبر كثيراً إذ يبلغ إجمالي الأموال المستثمرة في المشتقات وحدها 544 تريليون دولار كحد أدنى، والتقدير الأكبر هو 1.2 كوادر يليون دولار (1200 تريليون دولار).
إضافة إلى ما سبق فإن لدى الولايات المتحدة حجماً خرافياً من الآلة العسكرية الجبارة من حيث الكم والنوع، إذ تملك 13398 طائرة بأنواعها (روسيا الثانية 4078 طائرة) ولديها 6287 دبابة مقاتلة، و 39223 سيارة مصفحة، ومجموع الأصول البحرية 415 بما فيها 68 مدمرة، و68 غواصة، و 24 حاملة طائرات، يضاف فارق التقدم التكنولوجي الكبير بين صناعاتها العسكرية وصناعة الدول الأخرى.
إن هذه القوة العسكرية والاقتصادية الخرافية تفسر تحكم الولايات المتحدة في قرارات مجلس الأمن وفي قرارات الحرب والسلم في العالم.
ما هي محاذير روسيا اقتصادياً في سوريا؟