المجاعات عَبْر التاريخ كثيرة جداً معظم أسبابها الأداء الإداري المترهل والرعونة السياسية، والتي غالباً ما تنتهي بحروب بين أوطان، أو داخل الوطن الواحد بتدخُّل خارجي، أو بيد وطنية وبدعم خارجي، وأحياناً يكون سببها الأمراض السارية من مثل أعوام الطاعون العظيم في أوروبا ما بين عامَيْ 1345 إلى 1348 حيث مات بسبب ذلك المرض الرهيب حوالي 43 مليون أوروبي.
لقد عاشت اليابان مجاعة عام 1945، والصين ما بين 1945 و 1949، والأكوادور 1949، وتشيلي 1960، والفيليبين 1972، وفيتنام أربع مجاعات ما بين 1946 و 1968، والصين ما بين عامَيْ 1945 و1949، وأما المنطقة العربية فقد مرّت بمجاعات كثيرة منها تونس عام 1958، والمغرب عام 1960، وموريتانيا 1960، والجزائر عام 1962، ومصر عام 1974، وغيرها.
“سورية المفيدة” ليست هي مناطق النفوذ الروسي كما يزعم النظام السوري، على العكس أثبتت الوقائع الاقتصادية أن 64 بالمائة من سورية لا تستطيع الحياة دون ثلث سورية المتبقي ما بين الشمال الشرقي والغربي الذي يشكل شريان الحياة السوري، وبدونه لا يمكن لسورية أن تحيا، فبينما كان السوريون يستهلكوا 240 ألف برميل يومياً من نفطهم الموجود في ثلث سورية في الشمال الشرقي ويصدّرون 100 ألف برميل يومياً بات الشعب السوري الذي يحيا تحت نِير الاستبداد في “سورية المفيدة” بحاجة لاستيراد النفط من إيران ويدفع لقاءه تغييراً ديموغرافياً وطائفياً وعشرات العقود التي تبيع الممتلكات الحكومية لتمكين إيران من التغلغل في عمق الاقتصاد السوري.
بينما كان السوريون ينتجون 4 ملايين طن قمح، ثلثاه مصدرهما الشمال الشرقي والغربي وجزء منه من سهول حوران التي ما فتئ النظام يقصفها ويدمر بيوتها ويهجّر أهلها، واليوم بعد عشر سنوات على الثورة السورية ما زال النظام في غيّه السياسي فها هو يقصف مدينة درعا متَّبِعاً سياسة الأرض المحروقة وبات يحاصر المدينة ويقصفها خلال آخِر شهرين! فها هو يحرم “سورية المفيدة” من قمح حوران إضافة إلى قمح الشمال السوري، والمستغرب كيف لنظام يتباكى أنه ليس لديه ثمن قمح والجوعى في الطرقات بينما لديه إمكانية تمويل حملة عسكرية لمدة شهرين لتدمير درعا وغيرها؟!
كان السوريون يستهلكون تقريباً ثلاثة ملايين طن من القمح ويصدّرون مليون طن ولم يكونوا بحاجة لقمح روسي ولا معونات غذائية من الأمم المتحدة، ولا أن تتسول سورية من المؤتمرات الإغاثية بينما كانت سهول حوران تغذي إمبراطورية روما.
إن ما سمّاه النظام “سورية المفيدة” و”المجتمع المتجانس” يشرب المياه القادمة من ثلث سورية “الأكثر فائدة” حيث إن ثلثَيْ مياه سورية مصدرهما أكبر ثلاثة أحواض مائية الفرات ودجلة والخابور والعاصي موجودة خارج المناطق المسيطَر عليها من قِبل النظام وحلفائه في الثلث المفيد حقيقة لكل سورية.
إن تقطيع أوصال سورية وحرمان ملايين السوريين في مناطق سيطرة النظام من الكهرباء والماء والقمح والقطن الذي يأتي ثلثاه من الشمال السوري سببه حماقة النظام السوري، وعدم تعامُله مع مطالب الشعب بطريقة سياسية ولائقة، بل إن إصراره على قتل الشعب السوري وتهجيره والاستقواء بحلفاء لقتل الشعب، وأخيراً استهزاءه بالحل السياسي وعدم الاعتراف بقرارات الأمم المتحدة هو الذي يؤجل استرجاع كل سورية وإخراج السوريين من أَتون المجاعات والبرد والفقر والمرض.
من المعيب في تاريخ الأمم أن يصدر قانون عقوبات مثل “قيصر” ليطالب حكومة شعب بتطبيق بنود بديهية، حيث يطالب القانون النظام السوري بوقف قصف مشافي ومدارس الشعب السوري، وإخراج المعتقلين والسماح بالعودة الآمنة والكريمة للاجئين والنازحين إلى بيوتهم! حتى أن قانون “قيصر” لم يطالب بتطبيق قرار 2254 كحل سياسي، بل طالب بما هو أدنى من ذلك بكثير، ورغم ذلك فإن النظام بدل أن يتصالح مع الشعب ويوقف المقتلة السورية ويضع حداً لعذابات السوريين، بات يتاجر بالقانون ويسوّقه أنه هو سبب مجاعة السوريين وليس تأجيله للحل السياسي!
بل إن النظام السوري وصل إلى أبعد من ذلك حيث استهزأ حتى بمخرجات مؤتمرات سوتشي وأستانا التي رعاها حليفه الروسي، وأحرج الروس أكثر من مرة مستقوياً بالنظام الإيراني ومتذاكياً على الروس وآخِر ذلك استقباله وزير الخارجية الصيني في رسالة كَيْديّة لروسيا مدفوعة من إيران.
إن رأس النظام السوري صرّح مرتين على الأقل بأن عذابات السوريين الاقتصادية سببها الفساد المُستشرِي وتهريب رؤوس الأموال إلى المصارف اللبنانية والتي قدّرها هو في “خطاب القسم” بأنها 40 إلى 60 مليار دولار!
إن أي تأخير بالحل السياسي سيطيل عمر الفاجعة الاقتصادية السورية وسيتسبب في تدهور أكبر في الاقتصاد السوري التي وصل فيه تسعون بالمائة من الشعب السوري المتبقي في “سورية المفيدة” تحت خط الفقر، وكثير من أهلنا في سورية للأسف وصلوا لمرحلة المجاعة الحقيقية، إضافة إلى التضخم الجامح المكبوت الآن والذي سينفجر في أية لحظة، إضافة إلى شُحّ الكهرباء والماء وأزمة الخبز الخانقة، والتي يكون حلها البسيط هو التصالح مع الشعب والدفع بالحل السياسي حتى يستفيد الشعب السوري كله من نفطه ومياهه وقمحه وقطنه، وتعود عجلة الاقتصاد بالدوران دون الحاجة للاستجداء من الدول.
هل يتطلع النظام السوري أن يستعيد –لا قدّر الله- مجاعة عام 1075 التي عاشتها دمشق، حيث شحّت المؤن ونقص الغذاء وانتشر الوباء، ولم يكن الموتى يصلون المقابر؛ لأن الناس تأكلهم قبلها، أما القطط والكلاب والفئران فقد نفدت من المدينة؟
إن النظام السوري ينتحر جماعياً مع ما تبقى من الشعب السوري ويعاني من النقص في كل شيء بينما كل مستلزماته هي في سورية نفسها، متمثلاً بيت الشعر:
كالعِير فى البَيْداء يقتلها الظَّمَا .. والماء فَوْق ظُهورِها محمولُ