التكتلات الاقتصادية والتعاون الاقتصادي بين الدول أمرٌ بالغ الأهمية من أجل دفع عجلة التنمية الاقتصادية في تلك الدول ورفع حجم إنتاجها وتوسيع أسواقها وزيادة صادراتها وتنويع وارداتها، وفي حال مشروع “الشام الجديد” فإن التعاون بين العراق ومصر والأردن سيكون له آثاره الإيجابية على اقتصاديات الدول الثلاث في حال كُتب لهذا المشروع النجاح ولم تتدخل العوامل الذاتية الاقتصادية والقوى الفاعلة الحقيقية في صناعة القرار في تلك الدول على عرقلة سُبُل التعاون.
يبدو هنالك ترتيبات إقليمية واسعة من أجل أن تقوم الحكومة العراقية بمهامها كدولة تعتمد على نفسها وتتصالح مع جيرانها للتحضير للانسحاب الأمريكي شِبه الكامل من العراق مع نهاية عام 2021 كما وعد بذلك بايدن في لقائه الكاظمي في البيت الأبيض على إنهاء المهام القتالية للقوات الأمريكية في العراق بنهاية العام الجاري، وذلك خلال زيارة الكاظمي للولايات المتحدة الاثنين الماضي.
حيث أكد البيان المشترك للجولة الرابعة من “الحوار الإستراتيجي” بين بغداد وواشنطن أن الدور الأمريكي سيقتصر فقط على التدريب وتقديم المشورة والمساعدة وتبادُل المعلومات الاستخباراتية بنهاية الحادي والثلاثين من ديسمبر/ كانون الأول عام 2021، حيث يبدو أن الولايات المتحدة جادة هذه المرة بثاني أكبر انسحاب بشكل كامل بعد أفغانستان، لذلك فإن الكاظمي بدأ بمشروع الشام الجديد مع مصر والأردن، وبعده قمة بغداد في 28 أغسطس الحالي ودعوة المملكة العربية السعودية وإيران إضافة إلى الإمارات والكويت ومصر والأردن وقطر وتركيا وفرنسا.
وقد سبقه ترتيبات في 12 يوليو 2021 من قِبل البنك الدولي للإنشاء والتعمير ومؤسسة التمويل الدولية ووكالة ضمان الاستثمار متعدد الأطراف في إطار الشراكة القطرية من أجل جمهورية العراق عن الفترة المالية 2022 – 2026، حيث جددت مجموعة البنك الدولي التزامها بمواصلة دعم العراق، ووافقت على إطار الشراكة القطرية الجديد (CPF) لتشكيل أساس شراكتها مع البلد في الفترة 2022-2026.
الاقتصاد العراقي رغم أن ناتج الدخل القومي ارتفع ما بين 1980 و 2020 من 53 إلى 187 مليار دولار، إلا أن تلك الزيادة لم تنعكس على المستوى المعيشيّ للمواطن العراقي بل على العكس فإن حصة الفرد العراقي من ناتج الدخل القومي انخفضت من 7070 دولاراً عام 1990 إلى 4660 عام 2020، وتقريباً هنالك 8 ملايين عراقي تحت خط الفقر فضلاً عن أن نسبة البطالة ارتفعت من نسبة 8 بالمائة عام 2012 إلى 13.7 بالمائة عام 2020، بمعنى أن هنالك حوالَيْ مليون ونصف عاطل عن العمل في العراق.
قيمة دليل التنمية البشرية حَسَب البنك الدولي للعراق لعام 2019 هي 0.674 مما يضعها في فئة التنمية البشرية المتوسطة حيث تتموضع في المرتبة 123 من أصل 189 دولة ومنطقة، بمعنى أن العراق هي من أسوأ ستين دولة في العالم على ذلك المؤشر، أما من حيث مؤشر الفساد فإن العراق حسب تقرير مؤسسة الشفافية العالمية لعام 2020 هي الدولة 160 من أصل 179 بمعنى أنه تم تصنيف العراق كأفسد عشرين دولةً على كوكب الأرض.
إن تركيبة الصادرات العراقية تُبيّن أنه لا يوجد أي منتجات عراقية لتتبادل تجارياً مع الأردن ومصر، اللهم إلا النفط حيث تشكل 91% من صادراتها وأما مستورداتها فهي بالكاد تستورد 1.28 بالمائة من احتياجاتها من الأردن، أما مصر فلا يوجد تقريباً أي تعامل معها حيث يستورد العراق 27 بالمائة من احتياجاته من الإمارات و 20 بالمائة من تركيا و19 بالمائة من الصين و4 بالمائة من الهند و4 بالمائة من كوريا الجنوبية و2.43 بالمائة من الولايات المتحدة و 2.28 بالمائة من ألمانيا.
تركيبة المستوردات العراقية لا توحي بأن يكون هنالك أي تعامل تجاري مستقبلي مع مصر والأردن حيث يستورد العراق 7.7 بالمائة من مستورداته نفطاً مكرراً، وتشكل معدات البث الإعلامي ثاني أكبر مستوردات للعراق بشكل ملفت للانتباه حيث وصلت نسبتها 6.5 بالمائة من وارداتهم و5 بالمائة سيارات، والغريب أنه رغم الفقر والمستوى المعيشي المتدني فإن العراق يستورد 5 بالمائة من المجوهرات و 2.5 بالمائة دخاناً.
في عام 2019، كان العراق أكبر مستورد لدقيق القمح في العالم 469 مليون دولار، وشكّل استيراد الأرز 1.7 بالمائة من مستورداتها وأقل من واحد بالمائة طحيناً، وهذه المواد المذكورة يصعب استيرادها من الأردن أو مصر.
وتركيبة واردات مصر تقريباً مشابهة حيث إن أهم واردات مصر في عام 2019، كان قمحاً بقيمة (4.67 مليار دولار) والأسفلت (187 مليون دولار) وخيوط الخياطة القطنية (15.7 مليون دولار).
والبترول المكرر (5.87 مليار دولار)، والقمح (4.67 مليار دولار)، والبترول الخام (2.62 مليار دولار)، والسيارات (2.24 مليار دولار)، والأدوية المعبأة (1.79 مليار دولار)، ومعظمها مستورد من الصين (12.5 مليار دولار)، وروسيا، (5.46 مليار دولار) والولايات المتحدة (5.06 مليار دولار) والمملكة العربية السعودية (5.05 مليار دولار) وألمانيا (4.05 مليار دولار).
عام 2019 كانت مصر أكبر مصدّر لمسحوق الألمنيوم في العالم (177 مليون دولار) ولكن لا يوجد صناعة حقيقية عراقية تحتاج الألمنيوم، وربما الأمر الوحيد الممكن تصديره من مصر هو الذهب الذي يُشكِّل 5.6 بالمائة من صادراته؛ لأن 5 بالمائة من واردات العراق هي المجوهرات.
ربما ينجح الطرفان العراقي والمصري في هذا الاختراق التجاري ولو قدر للمشروع النفطي الحياة بدون عراقيل إيرانية وهذا مستبعد! بمعنى السماح -بشكل آمِن- بمدّ أنبوب لنقل النفط والغاز من البصرة إلى ميناء العقبة، ومن ثَمّ إلى مصر؛ لتصدير النفط العراقي عَبْر البحر الأبيض المتوسط، إلى أوروبا.
وإن سمح المسؤولون العراقيون الموالون لإيران بتزويد مصر والأردن بالنفط العراقي وبأسعار تفضيلية ستة عشر دولاراً للبرميل الواحد.
الدور الإيراني في العراق لا يوحي أنها ستسمح بأي إعمار أو نهوض اقتصادي للعراق وإلا لكانت قامت بإعمار العراق على مدى عَقْدين، ولما احتاج لرفع شعار “النفط مقابل الإعمار” وكأن العراق خارج لتوّه من حرب!
أما مذكرات التعاون في المجال الصناعي والزراعي عَبْر مذكرات التفاهم مع الأردن فهي ستبقى على الأغلب مجرد وُعود وبروتوكولات تفيد التسويق الإعلامي، وأما الاتفاق في مجال النقل فقد يُكتب له الحياة إلى أن يُساء استخدامه إيرانياً وطائفياً فضلاً عن تهريب الممنوعات وخاصة المخدرات والكبتاغون حتى تُخلق مشكلة ويتم إيقافه.
السؤال كيف ستقوم إيران بعمليات سياسية وطائفية واقتصادية من أجل ابتزاز مصر حتى تسمح لها بتوسيع استثماراتها في العراق من خلال تنفيذ مذكرات التفاهم الـ15 التي وقّعها كل من مدبولي والكاظمي؟ خاصة أن الشركات المصرية تتطلع من أجل إعادة إعمار وبناء مدن بالكامل دون منافسة من أي شركات أخرى، للمحافظات ذات الأغلبية السنية التي ساهمت في إهمالها وتدميرها إيران من خلال مسؤولين عراقيين موالين لها، والمعنيّ هنا مدن نينوى، وصلاح الدين، والأنبار، وسامراء.
كل ترتيبات الحكومة العراقية وتوجُّهات مجموعة البنك الدولي ومشروع “الشام الجديد” إضافة لِقمّة بغداد بغرض إعادة الإعمار وإصلاحات إدارة المالية العامة ونظام الحماية الاجتماعية، واستثمارات القطاع الخاص بأكثر من مليار دولار أمريكي الموعود لن يُعِين العراق على بناء اقتصاده ولن يسمح للقطاع الخاص العراقي أن يخلق فرص العمل ما لم تخرج السياسة الإيرانية من صناعة القرار العراقي وخاصة الاقتصادي منه كي يتم دعم تحسين بيئة التمكين والأعمال لتمهيد الطريق أمام القطاع الخاص العراقي من أجل الرخاء.
قبل إطلاق شعار “النفط مقابل الإعمار” على الحكومة العراقية أولاً تجاوُز التحديات السبعة التي وصّفتها مجموعة البنك الدولي حتى لا يكون مشروع الشام الجديد مجرد لقاء لالتقاط الصور بين الرؤساء وحتى تتم ترجمة تلك المشاريع عملياً، وعلى رأس التحديات السبعة، عدم الاستقرار السياسي وارتفاع مستويات انعدام الأمن والعنف، وكذلك الافتقار إلى الاستدامة المالية والحوكمة الاقتصادية الجيدة التي على الأغلب لن تسمح إيران بها؛ لأنها موضوعة تحت العقوبات الاقتصادية لمَظِنّة هيمنة إيران على النظام المصرفي العراقي، إضافة للافتقار إلى الفعّالية في مؤسسات القطاع العامّ الشفافة والخاضعة للمساءلة.
إن القطاع الخاص في العراق ضعيف للغاية، حيث تحتل البلاد المرتبة 172 من بين 190 اقتصادًا في تقرير ممارسة الأعمال الخاص بمجموعة البنك الدولي لعام 2020، وهذا كان موضوع تحدٍّ آخر أشار إليه البنك الدولي حيث هنالك قيود مفروضة على القطاع الخاص والمالي، وذلك لأن هنالك سيطرة واضحة للدولة على الاقتصاد بشكل مباشر ومن خلال الشركات المملوكة من قِبلها بمعنى السيطرة الإيرانية على الاقتصاد العراقي الذي قد يعيق عشرات المشاريع من أمثال “الشام الجديد”.
يُضاف إلى ما سبق من تحدِّيات وجود رأس مال بشري هائل غير مستغَلّ وكذلك الافتقار إلى البنية التحتية المرنة للخدمات العامة الشاملة، مع عدم كفاية إدارة البيئة والموارد الطبيعية لإعادة بناء العراق.
لا شك أن أيّ مشروع تنمويّ سيعود على تلك الدول بالخير في حال كانت هنالك بيئة استثمارية غير فاسدة ولا منفّرة للمستثمرين، ويبشّر بتقديم خدمات جليلة للمواطنين، ولكن مع تفهُّم الحالة العراقية والسيطرة الإيرانية المفرطة على صناعة القرار وإيصال العراق إلى هذا المستوى من الفساد والبطالة والفقر يصعب أن نستبشر خيراً بأي مشروع، وأخشى أن استعجال الترتيبات في العراق بتوجيه أمريكي دون ضمانات حقيقية لتطبيقها فعلياً من أجل تمهيد الأجواء، أما انسحاب أمريكا بحيث يكون انسحاباً أقلّ سوءاً منه في أفغانستان فقد لا يكون موفَّقاً، وقديماً قالوا: “مَن استعجل الشيء قبل أوانه عُوقِبَ بحرمانه”.