العدالة الاقتصادية هي أحد مكونات العدالة الاجتماعية واقتصاديات الرفاهية. إنها مجموعة من المبادئ الأخلاقية والمعنوية لبناء المؤسسات الاقتصادية، حيث يكون الهدف النهائي هو خلق فرصة لكل شخص لتأسيس أساس مادي كافٍ ليحيا على أساسه حياة كريمة ومنتجة وخلاقة.
يتقاطع مفهوم العدالة الاقتصادية مع فكرة الرخاء الاقتصادي الشامل، عن طريق خلق المزيد من الفرص لجميع أفراد المجتمع لكسب أجور مجزية حتى يكون العاملون قادرين على إعالة أنفسهم بشكل طويل الأمد والتي سينفقونها على اقتناء السلع وتحرضهم ترقياتهم الوظيفية مع الزمان لاستهلاك سلع وخدمات طويلة وقصيرة الأمد بما فيها اقتناء أصول ثابتة كشراء البيوت والسيارات وغيرها، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى زيادة الطلب في الاقتصاد.
ترجع علاقتي مع العلّامة أبي زيد عبد الرحمن ابن خلدون (732- 808 هجري) (1332-1406م) إلى عام 1994 يوم أكرمني المولى بأن فزت بجائزة دار سعاد الصباح للإبداع العلمي الكويتية على مستوى الوطن العربي عن بحثي المعنون “رؤية اقتصادية في كتاب بدائع السلك في طبائع الملك” لابن الأزرق (1429-1491) (832-896 هجري) وقد غصت يومها مع ابن الأزرق على مدى شهور حتى أنّي رأيت ابن خلدون في منامي!
لقد لفت ابن خلدون نظر عالم الاجتماع البولندي لودويغ غمبلويزك (1838- 1909) البولندي فأشار لكتاباته في علم الاجتماع، وكذلك تناوله عالم الاجتماع الألماني فرانز أوبنهايمر (1864- 1943) بكثير من الاحترام لتناوله الظاهرة الاجتماعية على أنها مثلها مثل الظواهر الطبيعية تحكمها القوانين ويمكن استخلاص هذه القوانين بالنظر بعمق وشمولية لكل الحوادث التاريخية والسياسية والدينية والاقتصادية ويمكن بعد الدراسة المستفيضة والمعمقة سحب هذه “القوانين الاجتماعية” على كل الشعوب، وكنت قد قرأت حينها أن الفضل باكتشاف فكر ابن خلدون يرجع إلى المستشرقة كاترين 1858، ومن ثم قرأت ادّعاء آخر بأن سلفستر دوساسي 1806 هو أول من تناول فكر ابن خلدون.
أكثر المفكرين علمية وصل إلى أن أقدم الدارسين من وجهة نظر الغرب لابن خلدون هو مستشرق فرنسي دربلو (1625-1695) فقد نشر في مكتبته الشرقية مقالاً يتضمن بعض المعلومات عن ابن خلدون لكنني وجدت أن ابن الأزرق «القاضي محمد بن علي بن محمد الأزرق الأصبحي -المولود في عام 832 الهجري في مالقة- قد سبق الجميع في شرح مقدمة ابن خلدون حيث ذلل صعابها، وشرح معقدها وأضاف إليها إضاءات لطيفة من خلال ما سكب من روحه الفقهية المالكية الطيبة.
كان ابن خلدون عبقرية عصره بلا منازع ولكن لم يكن العبقرية الوحيدة في سلسلة الفكر الإسلامي، بيد أنه كان جوهرة غالية في عقد هذه السلسلة.
لقد استثارت عبقريته البعض باتهامه بالنقل عن الرومان والبربر كون ابن خلدون كان يعرف شيئاً من اللغة اللاتينية، واتهم بتأثره بالمؤرخ البربري “فلورنس” والذي عاش في روما مؤرخاً وكاتباً ذائع الصيت، وقد عرف برأيه في تحديد حياة الدولة في أربعة عصور: عصر النشأة والعظمة والانحطاط والاندثار، فادعى البعض أن ابن خلدون قد اقتبسها منه، كما أن إتقانه للغة البربرية (اللغة البونيقية)، صار تهمة بحجة أنه اطلع على ما كتبه نسابو البربر المكافي، والنفوسي، وابن كداد، وابن الوراق، والبرازلي، والنفرومي، ويضاف إلى هذه التهم ما أخذه ابن خلدون عن كتاب الأنساب، وابن قتيبة فيما كتبه عن أخبار إفريقية، والطبري في تاريخه، والمسعودي في مروج الذهب، وابن حزم في الجمهرة، وإبراهيم الرفيق، والقيروان مؤلف أنساب البربر، والجرجاني في تهذيب التاريخ، والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات، علاوة على معرفته بالفلسفة اليونانية بخاصة كتاب أرسطاليس.
لا بل اتهم أيضاً أنه استفاد من نظريات علم الاجتماع السياسي من ابن رضوان والطرطوشي، وأيّاً كانت التهم فإن هذا ما كان لينقص من القامة الممشوقة لابن خلدون في التاريخ العربي والإسلامي ولا يقلل من عبقريته.
هناك اعتبار أساسي وراء غنى الأمم الذي عبر عنه ابن خلدون بـ “سبب كثرة المال” فهو كعالم اجتماعي موسوعي لم يغب عنه البعد الإنساني أثناء تحليله للقواعد الاجتماعية الحاكمة لنهوض الأمم وأهمها هو أن “كثرة العمران محفوظ برعاية العدل” لأن “المال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل” والسبب الأساسي في فقر الأمم أو “نقص المال” هو الظلم، وقد عدّه أولى أسباب فقر الدولة، وقال في الظلم: “هو العدول عن العدل الذي به كثرة المال ونماؤه” هذا النماء قد يتعرض لآفات “أولاها الخدمات الزائدة عن الحاجة” والآفة الثانية “تتجلى في وجوه إنفاق السلطان الأموال” عن عدة طرق منها “كثرة نفقة السلطان في خاصته لانغماسه في نعيم الترف” أو ما يعرف اليوم بالفساد الإداري والآخر “في كثرة ما يحتاج إليه في عطاء الجند” أو بمعنى آخر تضخم حصة ميزانية الدفاع في الميزانية بحيث تُفقر باقي القطاعات.
وكذلك من معيقات التنمية وآفاتها “كثرة أرباب الدولة لأخذهم بما أخذ السلطان” بحيث يستشري الفساد والمحسوبية إلى كل قطاعات الحكومة، وكذلك ضعف النظام الضريبي “ضعف الحامية عن جباية الأموال من الأعمال القاصية” وأما الآفة الثالثة فهي تجارة السلطان والتي عدّها من أعظم الآفات “المُضرّة بالرعية المفسدة للجباية” والحقيقة هذه تعد رأس المفاسد في وطننا العربي والعالم الثالث؛ حيث يعتبر الحاكم أن منصب الرئاسة هو فرصة لنهب ثروات الشعب ومن ثَم التمسك بالسلطة للحفاظ على المكتسبات الحرام له ولمن والاه من القَتَلَة واللصوص من الياقات البيضاء والعسكر ولو كلفت مقتلة وعذابات ملايين من أبناء الشعب.
يلخص ابن خلدون الأضرار المحدقة بالأمة من جراء مفسدة دخول رأس السلطة في التجارة والأعمال ومضايقة التجار والصناعيين ويَلحق بهذه السنّة السيئة أولاد المسؤول السياسي وأقرباؤه والمحيطون به من التجار المفسدين، وهذا ما نعيشه في أوطاننا ومن سلبيات هذا التدخل السافر في الاقتصاد: “1- مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع 2- أن السلطان قد ينزع الكثير إذا ما تعرض له غصباً أو بأيسر ثمن” والسبب طبعاً استخدامه لسلطته السياسية، وذلك “لفقد من ينافسه فيبخس ثمنه على بائعه” كما كانت تباع أملاك الأوقاف وتؤجر بأبخس الأثمان للمسؤولين الأمنيين في وقتنا وكذلك “3- يضطر الفلاحون والتجار لشراء السلعة بأرفع قيمة” وكذلك الأمر حيت يضطر الفلاحون والتجار للبيع بأبخس الأثمان “لكساد سوقها وربما يتكرر ذلك على التاجر والفلاح حتى يذهب رأسماله”.
يشير ابن خلدون إلى أن قيام الحاكم بالتدخل في السوق سيقلل من حجم الطلب الكلي فـ “إن ما يحصله السلطان قليل إذا ما قورن بما يكون عند غيابه عن البيع والشراء”، أما الآفة الرابعة فهي “نقص عطاء السلطان” والمترجم بنقص الأجور، وقد أبدع ابن خلدون في إشارته إلى سبب قلة أو ضعف الأجور والتي ستكون سبباً في ضعف النمو الاقتصادي للبلد أو ما أسماه “نقص المال” وهذا الضعف التنموي سيكون من وجهين “أحدهما أن الدولة هي السوق الأعظم للعالم والمادة المتصلة لعمرانه فإذا احتجز السلطان المال أو فقده قلّ ما بيد الحامية (انخفضت القوة الشرائية) وانقطع مأمنهم لأتباعهم فقلّت نفقاتهم التي هي أكبر مادة الأسواق، إذ هم معظم السواد، وذلك موجب للكساد وضعف أرباح المَتاجر فتقل الجباية (ينخفض حجم التحصيل الضريبي) لضعف مادتها ويرجع وبال ذلك على الدولة من حيث قصر حسن النظر إليه”.
لقد أسهب ابن خلدون في موضوع تكثير العمارة والنمو الاقتصادي والتي عدّها ركناً أساسياً في بناء الدولة فهي تساهم في “بيان وفور المال على الجملة بكثرة العمارة في الأقطار والأمصار فتتعدد الأعمال التي هي سبب للكسب مقتضى لحصول الثروة” ويشير ابن خلدون إلى أن كثرة الأعمال والأشغال العامة تعكس زيادة واضحة في الخراج وقلة أعمال العمران تعكس فقراً ووبالاً على الجباية، وأن سعة الأمصار من حيث حجمها كذلك لها كثير مساهمة في الإيفاء بالقيام بضروراتها حيث تجد أهلها ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر والخصاصة”.
يبقى السؤال إذاً: فيم تحفظ به العمارة؟ وكيف تحافظ الدولة على النشاط الاقتصادي والتنمية القائمة في البلاد؟ فكان أول ما أشار إليه ابن خلدون هو العدل لأنه “لا جباية إلا بعمارة ولا عمارة إلا بالعدل”، ثانياً على الحكومة الاهتمام الإستراتيجي بالمحاصيل الزراعية من خلال: “الاعتناء بالمزارعين”.
أما ما الذي يخلّ بحفظ العمارة فهو اختلال ميزان العدل؛ لأن “العدل تحفظ به العمارة، فالظلم يخلّ بحفظها” ويترجم الظلم في البلد من خلال “وضع الضياع في أيدي الخاصة” وكذلك يقوم المفسدون بالعدوان على الناس في أموالهم” لذا فإن ابن خلدون يُزجي نصيحة -ليت كل الحكام الفاسدين وأعوانهم يأخذون بها: “علينا أن ننزع الظلم عن الناس كي لا تخرب الأمصار وتكسد أسواق العمران، وتقفر الديار”.
يقوم ابن خلدون بالذهاب إلى أبعد من الحديث عن رفع الظلم إلى المدد الزمنية التي تستغرقها الدولة حتى تظهر آثار الظلم فيها حيث يقول: “إن نقص العمران بالظلم يقع بالتدريج” ويتوقف طول وقصر زمن الخراب “حسب كبر حجم المصر” ويتوسع في مسألة الظلم التي يراها المرضَ المستحكم في الدولة الفاسدة بقوله: “يقع الخراب بالظلم دفعة واحدة عند أخذ أموال الناس مجاناً والعدوان عليهم في الحرم والدماء، ويقع الخراب بالتدريج” وذلك إما بذرائع باطلة يتوسل بها كالمكوس (الضرائب والرسوم الجائرة) المحرمة والوظائف الباطلة، أو بـ “تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بها حيث يغتصبون قيمة عملهم، أو بالتسلط على الناس في شراء ما بأيديهم بأبخس الأثمان.” وكذلك “كل من أخذ ملك أحد أو اغتصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه ما لم يفرضه الشارع فقد ظلمه” واستشهد ابن خلدون بحديث لوهب بن منبه في تخويف الحاكم الظالم “إذا همّ الوالي بالعدل، أدخل الله البركات في أهل مملكته حتى في الأسواق والأرزاق وإذا همّ بالجور أدخل الله النقص في مملكته حتى في الأسواق والأرزاق”.
إن خُلاصة مقولة ابن خلدون تقتضي تحقيق العدالة؛ لأنها مصدر التنمية الاقتصادية الحقيقية وبها فلاح الأمم ونهوضها، ولقد بشّر ابن خلدون الحكومات التي تضطهد شعوبها بحُجج سياسية واقتصادية بأن مصيرها الانحطاط والزوال، ولكن السؤال الأهم هل يسود العدل الدول الـ 57 الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي التي لا تتمتع بالحريات المدنية والسياسية فيها سوى خمس دول فقط، ويعيش معظمها تحت خط الفقر، فأين حكامنا من مقولات ابن خلدون عن العدالة في توزيع الثروة؟ تُرى ماذا لو قامت تلك الدول بتطبيق العدل الاقتصادي والابتعاد عن الجور والفساد والفصل بين السلطات والقضاء الحر وتتمتع بالحرية الاقتصادية ولديها نظام ضريبي عادل… كيف كانت ستكون حال التنمية الاقتصادية وحال المواطن في بلادنا؟… واخلدوناه!