إن التوجهات الاستراتيجية والسياسية الروسية تدل على عودة الروح القيصرية والتوسعية التي انعكست في السياسات الخارجية وشبكة العلاقات الدولية التي ينسجها قيصر روسيا المعاصر بوتين، حيث عمل على بثّ الروح الأوراسية في قلب الشعوب الروسية التي تنظر لروسيا على أنها شبه قارة بذاتها، وأن مجالها الحيوي يشمل أجزاء واسعة من أوروبا وآسيا، إضافة إلى إعلان هوية روسيا الأرثوذكسية ونشأتها كرسالة إلهية والاعتزاز بالثقافة والأدب الروسيين، وعرّاب هذه الفكرة هو المؤرخ الروسي ألكسندر دوجين.
لكن لعل الروح القيصرية الروسية تعيد لأذهان الإيرانيين “معاهدة كلستان” وهي من أكثر المعاهدات إذلالاً في تاريخ إيران الفارسية بين نيكولاي رتيشيف عن الجانب القيصري الروسي والميرزا أبو الحسن خان شيرازي عن الجانب الفارسي في 24 أكتوبر 1813 بين روسيا القيصرية ومملكة القاجار في إيران، والتي نتج عنها خروج مناطق كثيرة في منطقة القوقاز وأجزاء من سواحل قزوين الغربية من السلطة الإيرانية، والتي كانت وراء الحرب الروسية الفارسية ما بين عامي 1826 و1828 ونتجت عنها معاهدة أخرى هي “معاهدة تركمانجي”، ونتيجة كلتا المعاهدتين قضى القيصر الروسي على أحلام إيران الفارسية وسلخ عنها جنوب وشمال القوقاز بما فيها أراضي جورجيا وأذربيجان وأرمينيا وداغستان وغيرها، وحسب المعاهدتين فإن تلك الأراضي تبقى تحت الحكم القيصري الروسي لمدة 180 عاماً.
الجدير بالذكر أن مجموعة من النواب الإيرانيين قاموا أخيراً بإعداد مشروع قانون لمراجعة اتفاقية تركمانجي على أمل ضم أذربيجان الشمالية لإيران الأمر الذي لا تعترف به أذربيجان.
تحاول إيران من جديد إقامة تحالف مع روسيا على الأراضي السورية أملاً منها في أنها ستتمكن في النهاية من الانتصار على الروس بعد انتهاء الصفقة السياسية
العلاقات الروسية الإيرانية موغلة في القدم وكانت إيران الطرف الأضعف فيها، واليوم تحاول إيران من جديد إقامة تحالف مع روسيا على الأراضي السورية أملاً منها في أنها ستتمكن في النهاية من الانتصار على الروس بعد انتهاء الصفقة السياسية وذلك عبر التمدد تحت المسمى الطائفي بالاستعانة بأدواتها الطائفية في المنطقة من جهة، ومحاولتها التوقيع مع النظام السوري على أكبر عدد ممكن من الاتفاقيات الاقتصادية كي تضمن الهيمنة الإيرانية على الاقتصاد والتعليم والعسكرة بعد أن تحاول بوسائلها الناعمة إزعاج الروس برفق، وإعلان التحالف معه إعلامياً واللعب بالورقة الروسية لمصالحها، ولكن روسيا بروحها الأوراسية القيصرية الجديدة وبتاريخها القاهر للإيرانيين الفرس تعلم بما قد يحيكه الإيرانيون من أجل الاستفراد بآخر معقل لروسيا خارج حدودها وخاصة في البحر المتوسط.
كتب أودي ديكيل وكارميت فالينسي في مايو 2019 في معهد دراسات الأمن القومي مقالا مهماً بعنوان: “روسيا وإيران: هل انتهى شهر العسل في سوريا؟”: حيث قال “بعد نجاح الإجراءات العسكرية الإسرائيلية لوقف التمركز العسكري الإيراني في سوريا يجب تعظيم الإمكانات السياسية والمصالح المشتركة لروسيا والولايات المتحدة لتثبيت الوضع في سوريا، وتقليص نفوذ إيران والقدرات في البلاد” ويؤكد ديكيل أن روسيا تعتقد “أن مساعي إيران لإقامة دائمة لبؤر عسكرية ومدنية في سوريا تقوّض الاستقرار الهش في البلاد والقدرة على جذب الاستثمارات الخارجية الضرورية لإعادة إعمار سوريا. في المقابل، تشعر إيران أن تحالفًا روسيًا سعوديًا أميركيًا إسرائيليًا يتشكل وهو مصمم لطردها من سوريا”.
التبادل التجاري بين إيران وروسيا متواضع جداً ويصلح تسميته تجارة الخضراوات!، حيث بلغ أعلى حجم للصادرات الروسية إلى إيران 3.3 مليار دولار عام 2010 ثم استمرت بالانخفاض إلى أن وصلت الصادرات عام 2015 إلى مليار دولار، وكانت الصادرات الروسية إلى إيران عام 2019 بلغت مليارًا ونصفًا فقط منها 1.1 مليار قيمة تجارة الخضار! وما تبقى تجارة حيوانات وبعض الخشب والآلات.
أما الواردات الإيرانية إلى روسيا فإنها لم تتجاوز نصف مليار دولار منذ عام 2005، وانتهت عام 2019 إلى 391 مليون دولار، وكانت إيران عام 2018 تصدّر إلى روسيا بمبلغ 280 مليون دولا فقط! منها 192 مليونًا مواد خام وأيضاً 190 مليون دولار قيمة تجارة خضار!
إن هذا الحجم المتدني للعلاقات التجارية بين البلدين يعكس تركيبة الهياكل الاقتصادية في البلدين فضلاً عن معدلات النمو الاقتصادي المنخفضة في روسيا حيث وصلت عام 2015 إلى -1.97 % سالب و0.19 % عام 2016، و1.34 % عام 2019، وهذا البرود التجاري بين روسيا وإيران يشجع على تخلي كل طرف عن الآخر في أول صفقة سياسية.
إن 70 في المئة من واردات الأسلحة الإيرانية مصدرها روسيا ما بين عامي 1995 و 2005 ووصل حجم الإنفاق العسكري الإيراني عام 2020 إلى 15.8 مليار دولار. (معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام أبريل 2021)، ولم تكتف روسيا ببيع أسلحتها لإيران بل ساعدتها في تطوير الأسلحة الإيرانية والطاقة النووية وبرامج الفضاء، وساعدت في تطوير صناعتها النووية، وحمت إيران من عقوبات الأمم المتحدة في مجلس الأمن.
لكن يبدو أن إيران تعلم جيداً أن روسيا تستخدمها كورقة في تفاوضها مع الولايات المتحدة ودول الخليج العربي من أجل إخراجها من المسألة السورية، لذا تسعى إيران من أجل خلق تحالف إقليمي مع تركيا وإعادة العلاقات السورية مع جيرانها الثلاثي العراق – تركيا – لبنان تحت الرعاية الإيرانية من أجل إخراج روسيا من اللعبة، وبالوقت نفسه إعاقة أي تحرك سياسي روسي للخروج من الاستعصاء الحالي للمسألة السورية، وذلك من خلال تشجيع إيران لرأس النظام السوري على عدم التجاوب مع مخرجات سوتشي واللجنة الدستورية التي لم ترض بها المعارضة الوطنية ويراها معظم الوطنيين السوريين أنها التفاف على القرارات الدولية، ولكن حتى هذا التحرك البسيط لتحريك الجمود في القضية السورية تعرقله إيران حتى تُحرج القيصر الروسي.
الأرجح أن إيران تتذكر تماماً كيف باعت روسيا الورقة الإيرانية في 9 يونيو عام 2010 عندما قامت بالتصويت بالموافقة على قرار مجلس الأمن 1929 والقاضي بأن إيران فشلت في الامتثال لقرارات مجلس الأمن السابقة والمتعلقة ببرنامجها النووي ولم تتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتم فرض المزيد من العقوبات عليها، وبناء عليه فإن الرئيس السابق دميتري مدفيدف حظر تسليم الأسلحة إلى طهران، والتي تشمل خمس منظومات صاروخية من طراز إس 300 بقيمة 800 مليون دولار، مبرراً الموقف الروسي بأنه استجابة لقرار مجلس الأمن الدولي 1929 الذي يحظر بيع أسلحة هجومية لإيران.
ورغم توقيع الرئيس الروسي بوتين في أبريل 2015 على تسليم منظومة إس 300 فإنه تم تأجيل تسليمها لإيران بحجة أنه عليها طلب النموذج الأحدث من المنظومة.
إن إيران تحاول مزاحمة روسيا اقتصادياً في سوريا بالتوقيع على أكبر عدد ممكن من الاتفاقيات مع النظام السوري كي تضمن وجودها في سوريا، بحيث لو باعها الروس في أية صفقة سياسية على الأقل تكون قد مكنّـت وجودها اقتصادياً، ولذلك فقد وقّعت اتفاقية بناء 200 ألف وحدة سكنية في عدة محافظاتٍ سورية، وقامت عام 2017 بالتوقيع على خمس اتفاقيات ومذكّرات تفاهم، كان من أهمّها إعطاء إيران الامتياز لاستخراج الفوسفات من منجم الشرقية في حين سيطر الروس على مناجم خنيفيس، الأمر الذي يتضارب مع المصالح الروسية التي سيطرت على الشركة العامة للفوسفات، كما وقعت على اتفاق نفطي مع النظام السوري والذي بموجبه يتم منح إيران حق استكشاف النفط في البلوك رقم 12 في منطقة البوكمال بريف دير الزور والذي تصل مساحته إلى 6702 كيلومتر مربع، وهذا أيضاً يتعارض مع اتفاقيات وقّعها النظام مع روسيا كوكيل حصري للثروات الباطنية السورية من غاز ونفط وغيره، بما في ذلك منح روسيا أول اتفاق للتنقيب عن النفط والغاز في مياه سوريا الإقليمية، وتوقيع ما يعرف بـ “عقد عمريت” البحري للتنقيب عن النفط وتنميته من جنوب طرطوس على الشاطئ وحتى بانياس، وبعمق 70 كيلومترًا، وذلك لمدة 25 عامًا بتمويل روسي، بقيمة 100 مليون دولار.
كما قامت إيران في 28 كانون الثاني/يناير 2019 بالتوقيع على 11 اتفاقية ومذكرة تفاهم، بينها اتفاقية تعاون اقتصادي استراتيجي طويل الأجل، وكذلك اتفاقيات في مجال إصلاح وتشييد شبكات الكهرباء في اللاذقية وحلب ودير الزور، الأمر الذي يزعج موسكو لأنها تعتقد أن مشاريع الطاقة والثروة المعدنية من نصيبها، بدليل أن روسيا قامت في 26 نيسان 2016 بتمويل بناء محطة تشرين الكهربائية واتفاق بناء مصنع المحولات الكهربائية في مدينة عدرا الصناعية.
وربما كان توقيع اتفاقية تخص حصول إيران على حق استثمار ميناء اللاذقية هي الاتفاقية الأكثر إزعاجاً لروسيا التي تريد وضع يدها على كل الساحل السوري بعدما استحوذت على ميناء طرطوس وبات ميناء بانياس حكماً تحت السيطرة الروسية، وقد قام الروس بعرقلة تنفيذ تسلم إيران لميناء اللاذقية، لأن روسيا تريد وضع يدها عليه.
الإيرانيين يتذكرون جيداً معاهدة تركمانجي منذ مئتي عام والتي قام فيها الروس بإذلال إيران الفارسية وتفكيك إيران جغرافياً
لعل الاتفاقية التي على إثرها استشاط غضب الروس كانت الاتفاقية التي تم توقيعها في يوليو 2020 بين وزير دفاع النظام السوري علي عبد الله أيوب، مع رئيس أركان الجيش الإيراني محمد باقري، وهي اتفاقية شاملة للتعاون العسكري بين إيران وسوريا، من أجل تقوية أنظمة الدفاع الجوية السورية، وهو مزاحمة عسكرية مُعلنة للوجود الروسي العسكري في سوريا، والذي قامت روسيا بإفشاله من خلال السماح لإسرائيل بقصف المواقع الإيرانية التي تشتبه بها من دون تشغيل منظومتها الصاروخية.
لعل الإيرانيين يتذكرون جيداً معاهدة تركمانجي منذ مئتي عام والتي قام فيها الروس بإذلال إيران الفارسية وتفكيك إيران جغرافياً، ولعل عدم ارتياح الروس لوجود الإيرانيين في سوريا سيدفعهم لبيع الورقة الإيرانية في أول صفقة سياسية كما فعلوا عام 2010، وعندئذ قد يفاجأ النظام الإيراني بـ “معاهدة تركمانجي” روسية أخرى تعيد إيران لحجمها الطبيعي، وتخلّص السوريين من مشروع إيران الطائفي والديمغرافي وتنهي الأحلام الجيوسياسية الإيرانية، وتقدّم روسيا حينئذ قرباناً ثميناً للولايات المتحدة والغرب وتعود روسيا بمظهر الفاتح للمجتمع الدولي، وتسجّل انتصاراً يشكرها عليه العالم.