يبحث بعض الاقتصاديين مسألة أنسنة علم الاقتصاد من حيث عدالة توزيع الثروات داخل الدولة الواحدة، واعتناء الاقتصاديين في المجال التنفيذي بمستوى معيشة ورفاهية المواطن في بلد ما، كما تتم دراسة مدى أخلاقية الممارسة الاقتصادية بين الدول تحت ما يسمى بالعولمة والتجارة الدولية، ومن هنا فإن الحديث عن البعد الأخلاقي لعلم الاقتصاد موضوع متشعب يعتمد على تعريف الأخلاق، والمعايير التي نصنّف على أساسها أن نظاماً اقتصادياً أنه أخلاقي بالمعنى الإنساني.
وتمت دراسات كثيرة منها دراسة أجراها البروفسور رايموند بومهارت من جامعة شيكاغو 1969 حول الأخلاق والأعمال شارك فيها رجال أعمال وشخصيات وطلبة مشفوعة بردود 74 من عمداء كليات إدارة الأعمال على استبيان مطول تم إعداده تحت إشراف ويليام رودر عندما كان مساعدًا لوزير التجارة.
لعل أفضل من يحق له تمثيل القيم الاقتصادية من وجهة نظر أخلاقية – غربياً على الأقل – هو آدم سميث (1790-1723) الأب الروحي للاقتصاد السياسي بتعريف علماء الاقتصاد الغربيين، الذي كان أستاذاً لعلم الأخلاق وكان أستاذ كرسي للمنطق في جامعة كلاسكو فقد كان مدرّساً لمادة الأخلاق قبل الاقتصاد، لذا ليس من المستغرب كعالم للأخلاق واقتصادي معاً أن يقول في كتابه “نظرية الوجدان الأخلاقي” الذي كتبه عام 1759:
“ينبغي على الرجل أن ينظر إلى نفسه على أنه مواطن في هذا العالم وعضو في جمهورية الطبيعة وليس فرداً مستقلاً منفصلاً عن العالم، ومن أجل مصلحة هذا العالم الكبير ينبغي عليه طوعاً أن يضحي بمصلحته الشخصية الصغيرة في كل الأوقات”.
يعتبر آدم سميث أنه للتعامل مع أسس الأخلاق علينا أن نجيب عن تساؤلين:
الأول هو على ماذا تنطوي الفضيلة؟ والثاني بأي الطرق نستحسن بعضها أو نخطّئ بعضها؟ وقد وجد أن الفضيلة تنطوي على ثلاث معايير: 1) إما سلوك التملك 2) أو إرادة الخير 3) أو التعقل و الرشادة.
كما أن سميث فهم “حب الذات” ضمن إطار التعاطف الذي يسود المجتمع بعيدا عن فهم المنفعة الشخصية التي تصدرُ عن أنانية الذات، وهو الفهم الذي تبناه معظم الاقتصاديين فيما بعد، ويشرح سميث هذا بقوله: “التعاطف لا يمكن أن يكون بأي حال له علاقة بمبدأ بالأنانية. عندما أتعاطف مع آلامك أو حقك في الغضب يمكن لهذا الشعور أن يفسر وبحق حب للذات لأن هذا الشعور مصدره من كوني قستُ حالتك المُعاشة على حالتي من خلال تفكيري بطريقة أنني لو وضعت نفسي مكانك، أو لو عشت حالتك، عندها تتشكل لدي فكرة عما تعايشه أنت فأحس بحالتك” إن هذا الفناء في الآخر وإلغاء الأنا مستغرب كونه صدر عن أب الاقتصاد السياسي الغربي، خاصة إذا نظرنا إلى مدى انحراف الاقتصاد الغربي المعاصر عن هذه القيم، ولاسيما عندما نرى فيما بعد نسبة ما ينفقه العالم الصناعي كمساعدات للعالم الثالث، وما ينفق على التسلح في العالم الغربي.
الوصول لأعلى فاعلية اقتصادية برأي فوكوياما ليس بالضرورة أن يكون عن طريق عقلانية المنفعة الشخصية للأفراد لكنه قد يكون باجتماع الأفراد القادرين على العمل الجماعي، لأنهم يكوّنون مجتمعاً يحمل قيماً أخلاقية
إن ما سبق من كلام آدم سميث هو امتداد لكلام أرسطو عندما اعتبر أن “الفضيلة البشرية ليست بالضرورة خيراً للجسد فقط بل كذلك للوجدان”.
عُنيَ الفكر الاقتصادي بدراسة الدافع الذي يقبع وراء أي فعلة اقتصادية وكان العامل صاحب الحظ الأوفر بالعناية كدافع أساسي هو المصلحة الشخصية وباتت العقلانية أو “الرشادة” بناء على هذا الاعتبار تقاس بالقدرة على تعظيم هذه المنفعة، لكن الوصول لأعلى فاعلية اقتصادية برأي فوكوياما ليس بالضرورة أن يكون عن طريق عقلانية المنفعة الشخصية للأفراد لكنه قد يكون باجتماع الأفراد القادرين على العمل الجماعي، لأنهم يكوّنون مجتمعاً يحمل قيماً أخلاقية.
لكن تُرى هل كان الغرب أميناً على الاقتصاد العالمي وهل قارب أخلاقيات آدم سميث؟
واقع حال التجارة العالمية يري أن هنالك حسب مجلة فورتشن احتكاراً للتجارة العالمية من قبل أكبر 500 شركة في العالم التي وصلت عوائدها 2020 إلى 33.3 تريليون دولار وانخفضت قليلاً بسبب جائحة كوفيد 19 عام 2021 إلى 31.7 تريليون دولار. إن هنالك شركات تفوق إيراداتها السنوية ناتج دخل قومي بلاد بكامل ثرواتها وطاقتها البشرية، وتاريخها العريق.
عام 2021 وصلت إيرادات شركة وول مارت إلى 559 مليار دولار بمعنى خمسة أضعاف ناتج الدخل القومي المغربي بملايينها الـ35 ، وشركة ستايت غرد للكهرباء والطاقة الصينية وصلت إيراداتها 386 مليار دولار بمعنى عشرة أضعاف ناتج الدخل القومي التونسي.
رغم أن معدلات الفقر قد حققت تحسينات كبيرة على مدى العقود القليلة الماضية، لكن لازال هنالك 736 مليون شخص يعيشون في فقر مدقع، على أقل من 1.90 دولار في اليوم. يعيش 413 مليون من هؤلاء الأشخاص في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، تسع عشرة دولة حول العالم لديها معدلات فقر تزيد على 50٪.
في جميع أنحاء العالم، الفقر آخذ في الانخفاض منذ عام 1990، وقد ارتفع ربع سكان العالم فوق مستوى الفقر المدقع، تقدر تقديرات الفقر العالمي بحوالي 8.6٪ من سكان العالم حيث يعيش الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع على 1.90 دولار أو أقل في اليوم.
زاد الرخاء المشترك في 74 من أصل 91 اقتصادا توفرت عنها بيانات في الفترة 2012-2017، مما يعني أن النمو كان شاملا ونمت دخول 40 في المئة من السكان الأشد فقرا. في 53 من تلك البلدان، أفاد النمو أفقر الناس أكثر من السكان ككل. بلغ متوسط الرخاء العالمي المشترك (النمو في مداخيل 40 في المائة الأدنى) 2.3 في المئة للفترة 2012-2017.
لا يوجد تقدم في معالجة الفقر في جميع البلدان، حيث شهدت بعض البلدان التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي أو الصراع أو ابتليت بالكوارث الطبيعية زيادة في عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر، يحتاجون إلى التعليم والرعاية الصحية المناسبة والحصول على المياه النظيفة وفرص العمل لمساعدة وضعهم المالي.
في جنوب أفريقيا أعلى معدل فقر بنسبة 26.6 ٪، تتمتع جنوب أفريقيا بأكبر فجوة في عدم المساواة في الثروة في جميع أنحاء العالم، حيث يحصل أعلى 1٪ من أصحاب الدخول على ما يقرب من 20٪ من الدخل، و90٪ من أصحاب الدخول في جنوب أفريقيا يأخذون إلى أوطانهم 35٪ فقط من إجمالي الدخل، تليها كوستاريكا بنسبة 20.9٪، ثم رومانيا بنسبة 17.9٪ والولايات المتحدة بنسبة 17.8٪.
الولايات المتحدة لديها رابع أعلى معدل فقر بنسبة 17.8 ٪. على الرغم من كونها أكبر اقتصاد في العالم، إلا أن الولايات المتحدة لديها أيضًا فجوة كبيرة في عدم المساواة في الثروة. حيث إن عتبة الفقر الحالية في الولايات المتحدة هي 25700 دولار لأسرة مكونة من أربعة أفراد، وهذا يعني أن الأسر المكونة من أربعة أفراد والتي يقل دخلها قبل الضريبة عن 25700 دولار أميركي تعتبر تعيش في فقر. بعض الدول أكثر فقرًا من غيرها، ويتفاقم فقرها بسبب ارتفاع معدلات البطالة والافتقار إلى الوظائف ذات الأجور المرتفعة.
رغم ذلك فإن الولايات المتحدة لديها أكبر عدد من أصحاب الملايين 39 بالمئة من مليونيرات العالم، متقدمةً على الصين التي لديها 9 بالمئة من مليونيريات العالم واحتلت المركز الثاني، و5 بالمئة ألمانيا، و4 بالمئة فرنسا و4 بالمئة بريطانيا، وكندا مثل إيطاليا واستراليا 3 بالمئة، وسويسرا وهولندا وكوريا الجنوبية وإسبانيا كل منهم 2 بالمئة.
قد يتجاوز عدد أصحاب الملايين في العالم 84 مليونًا في عام 2025 ، بزيادة نحو 28 مليون من عام 2020، حسب تقرير الثروات في العالم 2021 الصادر عن كريدت سويس.
جائحة كورونا حصدت الأرواح والثروات في العالم الأمر الذي انعكس في الانخفاضات الهائلة في مؤشرات الأسواق على ضياع ثروات البشر في العالم، حيث انخفض مؤشر إس آند بي 500 بنسبة 34٪، ومؤشر نيكاي بنسبة 31٪. ومؤشر شنغهاي بنسبة أكثر تواضعًا بلغت 13٪، ونتيجة لذلك فإن 17.5 تريليون دولار أميركي فقدت من إجمالي ثروة الأسرة العالمية بين يناير ومارس 2020، أي ما يعادل انخفاضًا بنسبة 4.4٪. انخفضت الثروة العالمية لكل شخص بالغ بنسبة 4.7٪.
تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن جائحة كورونا ستدفع ما بين 88 مليونًا إلى 115 مليون شخص إلى الفقر المدقع هذا العام، مع ارتفاع العدد الإجمالي إلى ما يصل إلى 150 مليونًا بحلول عام 2021، اعتمادًا على شدة الانكماش الاقتصادي، ومن المرجح أن يؤثر الفقر المدقع، الذي يُعرَّف بأنه العيش على أقل من 1.90 دولار أميركي في اليوم، على ما بين 9.1٪ و 9.4٪ من سكان العالم في عام 2020، وفقًا لتقرير الفقر والرخاء المشترك الذي يصدر كل سنتين، وهذا من شأنه أن يمثل تراجعا إلى معدل 9.2٪ في عام 2017، فلو لم يضرب الوباء العالم، كان من المتوقع أن ينخفض معدل الفقر إلى 7.9٪ في عام 2020.
خسرت البلدان الفقيرة 5.7 تريليون دولار من المساعدات على مدى السنوات الخمسين الماضية – ما يعادل 114 مليار دولار سنويًا – لأن الدول الغنية تخلت عن “وعدها الرسمي” بتقديم 0.7 في المئة من دخلها القومي في المساعدات الدولية كما جاء في تقرير جديد لمنظمة أوكسفام “خمسون عامًا من الوعود الكاسرة” ، الذي نُشر قبل الذكرى الخمسين لالتزام المساعدات الدولية يوم السبت 24 أكتوبر 2020، من أن التداعيات الاقتصادية لـ COVID-19 ستزيد من الحاجة إلى المساعدة ولكنها ستزيد من تقويض إنفاق المساعدات، وتجعل الأمر أكثر صعوبة. للدول الفقيرة لتعبئة الإيرادات من مصادر أخرى. قد يدفع الوباء ما يصل إلى 200 – 500 مليون شخص إلى الفقر، ومع ذلك تم التعهد حتى الآن بنسبة 28 في المئة فقط من مبلغ 10.19 مليار دولار الذي طلبته الأمم المتحدة لمساعدة البلدان الفقيرة في معالجة الأزمة.
أنفقت الدول الغنية 0.3 في المائة فقط من إجمالي دخلها القومي على المساعدات الدولية في عام 2019، وحققت خمس دول فقط – لوكسمبورغ والنرويج والسويد والدنمارك والمملكة المتحدة – هدف 0.7 في المئة أو تجاوزته.
حاول د.أمارتيا سين الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد 1998 في كتابه حول الأخلاق والاقتصاد أن يعيد الاقتصاد إلى حظيرة الأخلاق بعد أن فلت من عقاله
قال خوسيه ماريا فيرا، المدير التنفيذي المؤقت لمنظمة أوكسفام الدولية: المساعدات الدولية هي أداة حاسمة في مكافحة الفقر وعدم المساواة، ولكن معظم الحكومات الثرية تتخلف بشكل منهجي عن التزاماتها بالمساعدة منذ عقود. هذا الدين البالغ 5.7 تريليون دولار يدفعه 260 مليون طفل خارج المدرسة، ونصف البشرية التي تفتقر إلى الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية، وملياري شخص ليس لديهم ما يكفي من الطعام”.
حاول د.أمارتيا سين الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد 1998 في كتابه حول الأخلاق والاقتصاد أن يعيد الاقتصاد إلى حظيرة الأخلاق بعد أن فلت من عقاله، حيث شكك بنجاح الاعتماد فقط على حرية السوق في العالم، وأقرّ بأنّ هذه الحرية لا تخبرنا كثيراً عن ماهية الباعث المختبئ وراء أي عمل اقتصادي في أي اقتصاد كان فاليابان مثلاً كانت مثالاً حقيقياً بالشواهد الرقمية الدالة على أن السلوك المنظم الذي يكون دافعه الواجب، والولاء، والنية الطيبة، قد لعب دوراً رئيسياً في النجاح الصناعي وما أسماه ميشيو مورشينا “الأخلاق اليابانية” حيث إن ذلك النمط من السلوك يصعب بالتأكيد مطابقته مع أبسط صور سلوك المصلحة الشخصية، لقد كان أمارتيا واحداً من أهم الاقتصاديين-الأخلاقيين الذين أثاروا مواضيع أخلاقية سامية بروح اقتصادية تنشد العدالة في الأرض، فقد أثار مواضيع الجوع، وانعدام المساواة في توزيع الثروات، وموضوع الحرية كمدخل للتنمية الاقتصادية.
حاول أمارتيا أن يذكر القوى الاقتصادية العالمية بأن الطلاق بين الأخلاق والاقتصاد طلاق غير بائن، وأن بشائر ظهور مدرسة الاقتصاديين – الأخلاقيين التي بدأها آدم سميث من اسكوتلاندا سيتابعها أمارتيا من بنغلادش، وهي قادمة لتعيد قوامة الأخلاق على الاقتصاد، ولو اضطر قوى العالم المستضعف أن يطلب “الاقتصاد” على بيت الطاعة، حتى يسود العدل في الأرض، وتقوم قوى الاقتصاد العالمي بعيداً عن رعوناتهم السياسية والعسكرية بأداء أمانة العدل في الأرض وأهمها نشر السلام والأمان وتوزيع الثروات وفرص العمل والمعرفة للعالم حفاظاً على أمانة سيادة العالم متمثلين بالآية: “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا” النساء 58، فالله ومليارات من عباده سيبصروا ذلك العدل ويعيشوه بعيداً عن أي خوف وقهر وجوع وفقر ومرض.