آليات عمل الأمم المتحدة وتوجهاتها تبدو متناقضة وغير مفهومة كأنها جسد بأكثر من رأس، وآخر مثال صارخ كان خبراً مستفزاً للعالم، وهو خبر تعيين “سفير” النظام السوري الدكتور حسن خضور مدير الإدارة القنصلية في وزارة الخارجية والمغتربين، كمندوب “دائم” لسوريا لدى مكتب الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى في فيينا، وتقديم أوراق اعتماده إلى السيدة غادة والي المدير التنفيذي لمكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة، ومدير عام مكتب الأمم المتحدة في فيينا.
يبدو أن السيدة غادة والي لا تتابع أعمال الأمم المتحدة التي أصدرت تقريراً في سبتمبر/أيلول 2020 حول جرائم الحرب المرتكبة في سوريا، والتي قدمته لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، حيث اتهمت فيه القوات الحكومية السورية بأنها “نفذت هجمات جوية وبرية أهلكت البنية التحتية المدنية، وأخلت البلدات والقرى”، ما أسفر عن مقتل المئات من النساء والرجال والأطفال، وأنه تم تدمير العديد من المواقع التي يحميها القانون الدولي في شمال غرب البلاد في هجمات جوية وبرية، بما في ذلك بذخائر عنقودية، وفقا لتقريرهم، ويفصل التقرير كيف أنه من نوفمبر/تشرين الثاني 2019 إلى يونيو/حزيران من هذا العام، وقع 52 هجوماً من جميع الأطراف شملت 17 هجوماً على المستشفيات والمنشآت الطبية، 14 هجوماً على المدارس و12 على المنازل و9 على الأسواق، وأن مثل هذه الأفعال ترقى إلى جرائم حرب متمثلة في شن هجمات عشوائية وهجمات متعمدة على أهداف محمية.
أنصح السيدة غادة والي الاجتماع بالقاضية الفرنسية كاثرين مارشي أوهل، رئيسة الآلية التي أسستها الأمم المتحدة لضمان تحقيق العدالة فيما يتعلق بجرائم الحرب في سوريا في مارس/آذار 2021، حيث أن تلك الآلية قدمت معلومات وأدلة إلى 12 سلطة قضائية وطنية، والتي قامت بإجراء 84 تحقيقاً وملاحقة قضائية وأن لديها قائمة سرية بـ 3200 اسم مشتبه به من النظام السوري.
لعل السيدة غادة لم تسمع عن الاجتماع الذي صوت فيه ثلثا الدول الأعضاء في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في 21 أبريل/نيسان 2021، والقاضي بتجريد سوريا من حقوقها بالمنظمة بعدما أكد تقرير مسؤولية دمشق في عدد من الهجمات بأسلحة كيميائية… فكيف تتهم الأمم المتحدة “دولة” بقتل شعبها بكل أنواع الأسلحة بما فيها الكيماوية، ثم تسمح لها تعيين ممثل لها في محاربة “الجريمة والمخدرات”؟!
أتفهم أن المديرة التنفيذية لمكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة لم تتابع الأخبار التي أتت من اليونان في مايو/أيار 2019 والتي هي على بعد ساعات من فيينا، حيث وضع ضباط المخدرات اليونانيون في ميناء بيريوس بأثينا أيديهم على حاويات مليئة بـ 33 مليون حبة من الفينيثيلين المحظور النفسي، المعروف باسم كبتاغون بقيمة 660 مليون دولار، وهي واحدة من أكبر عمليات المصادرة للحبوب تم تسجيلها على الإطلاق، وللمصادفة كانت قادمة من اللاذقية، سوريا بلد “السفير” خضور!.
وكذلك في 1 يوليو/تموز 2020، أعلن مسؤولو الموانئ الإيطالية ضبط 84 مليون قرص من مادة الكبتاغون المخدرة الاصطناعية، بقيمة 1.1 مليار دولار، على متن ثلاث سفن شحن قادمة من سوريا.. فهل لدى “السفير” خضور تفسير لذلك؟!
وكذلك ربما لم تسمع السيدة والي أنه في ديسمبر/كانون الأول اعتراض سفينة شحن سورية، من نفس بلد السيد خضور، كانت في طريقها من اللاذقية إلى ليبيا بالقرب من جزيرة كريت مع 3 ملايين حبة من الفينيثيللين بقيمة 113 مليون دولار، وهي عبارة عن حبوب الكبتاغون السورية الصنع، والمعروفة محلياً باسم أبو هلالين، تم حجزها في فرنسا في عام 2017، وكذلك ربما فات مديرية الأمن العام الأردنية أن يخبر السيدة والي عن مصادرة 47 مليون حبة كبتاغون في عام 2018.
ربما السيدة والي لم تتواصل مع السيد فيرنر سيب، رئيس الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات الذي طالب السلطات السورية منذ عام 2016 بتوضيح اختفاء كميات كبيرة جداً من السودوإيفيدرين والسلائف الأخرى التي طلبتها سوريا، وقد حذر في حينها من أن المواد المخدرة من تلك المكونات قد يتم تصنيعها وإنتاجها للتصدير كحبوب مخدرة (الكبتاغون وغيرها)، ولم يتلق تفسيراً إلى الآن.. ربما السيد خضور جاءه بالتفسير بعد خمسة سنوات؟! أو ربما لديه تفسير عن سبب تضاعف كمية الكبتاغون التي تمت مصادرتها على الحدود السورية اللبنانية لتصل إلى ما يقرب من 30 مليون حبة ما بين عامي 2013 و 2014 وكيف أن ثلث مضبوطات الكبتاغون في جميع أنحاء العالم تحدث في الشرق الأوسط، وخاصة من سوريا؟
الغريب أن غادة فتحي والي هي المدير العام/المدير التنفيذي لمكتب الأمم المتحدة في فيينا، المعني بالمخدرات والجريمة هو نفس المكتب الذي أصدر في أبريل/نيسان 2021 تقريراً بعنوان: “الاقتصاد السوري في حالة حرب: الكبتاغون والحشيش ودولة المخدرات السورية” وتقوم السيدة والي بعد شهرين من إصدار التقرير بتعيين “السفير” خضور! وهذا التقرير يوضح كيف أنه وصل حجم المخدرات المصادرة من الحشيش الذي مصدره سوريا إلى 46.6 طن عام 2020، و20.2 طن عام 2019، و 12.4 طن 2018، ومن الكبتاغون 14.1 طن عام 2015، و 13.4 طن عام 2014، و 9 طن عام 2013، وكذلك أشار تقرير ستيفن ستار 2019 المعنون “الصادرات السورية الكبيرة التالية: حبوب غير مشروعة “حالات ضبط كبتاغون كبيرة في الشرق الأوسط، تم الإبلاغ عنها في وسائل الإعلام مارس/آذار 2014 – نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وأشار التقرير إلى إرسال أكثر من 10 مليون حبة كبتاغون براً وبحراً وجواً للإمارات والبحرين والسودان والسعودية وغيرها، وكان ذلك الرصد لتجارة المخدرات من سوريا خلال عام ونصف فقط، فهل قدّم “خضور” تفسيراً لذلك النشاط الإجرامي بحق العالم كله قبل أن تقبل السيدة والي أوراق اعتماده ؟!.
لا يخفى على السيدة والي سيطرة النظام السوري من خلال حلفائه في لبنان وقد ذكرت دراسة لجي بي سي نيوز الإخبارية بأن ميليشيا “حزب الله” تشرف على شبكة معقدة مؤلفة من 1600 عميل، مهمتهم بيع المواد المخدرة وذلك بالتعاون مع بعض ضباط النظام السوري، الذي يسهلون عمليات بيع المخدرات التابعة للحزب، مقابل حصولهم على قسم من المرابح الضخمة التي يجنيها التجار، ولذلك من الطبيعي أن تعتبر السيدة والي ملفي تجارة المخدرات في لبنان وسوريا من مسؤولية النظام السوري مهتمة بتجارة المخدرات، لأن شبكة إنتاج المواد المخدرة في البلدين على أعلى مستوى من التنسيق، ونفس المكتب صرّح بأنه وصل حجم مصادرات المخدرات المصادرة من لبنان إلى 2.5 طن من أنفيتامين، و 8.3 طن من الحشيش ومن 258 كغ من نباتات القنب عام 2018، و 1.08 طن من بذور القنب عام 2015، وهنالك 16 طن من أنواع المخدرات الأخرى عام 2015، فهل سيفيد “السفير” خضور مكتب الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدرات بأسماء تجار المخدرات في سوريا ولبنان وحجم تجارتهم وأسماء المسؤولين عن تسهيل تجارتها في مرافئ ومعابر البلدين؟!
كيف استطاعت السيدة والي المصرية الأصل أخلاقياً و “أممياً”، أن تقوم بتعيين “السفير” خضور ممثلاً للنظام السوري لــ “محاربة الجريمة والمخدرات” نفس النظام المسؤول عن تصنيع ملايين حبوب الكبتاغون التي تدمّر شباب العالم حيث تمت مصادرة 70 مليون حبة منها عام 2015 لوحدها قادمة من عند نفس النظام؟ هل هذا تم بموافقة سكرتير الأمم المتحدة أنتونيو غوتيرس؟ ألم تعلن مفوضة الامم المتحدة العليا لحقوق الإنسان نافي بيلاي في سبتمبر/أيلول 2013 أن هناك أدلة “تشير الى مسؤولية” للرئيس السوري بشار الاسد في جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية في سوريا؟ ألم تسمع السيدة والي بما قالته بيلاي؟ ألا يطرح هذا التصرف مسألة التشكيك بالموقف الأخلاقي وسوء إدارة الأمم المتحدة كمؤسسة بأكثر من توجه؟
يعتبر مركز تحليل وبحوث العمليات (COAR) سوريا المركز العالمي لإنتاج الكبتاغون، وتم اعتبارها “عاصمة الكبتاغون في العالم”، والتي أصبحت الآن أكثر تصنيعاً وتكيفاً وتطوراً تقنياً من أي وقت مضى، وتقدر قيمة صادرات الكبتاغون من سوريا في عام 2020 ما لا يقل عن 3.46 مليار دولار أمريكي والتي هي تتجاوز قيمة كل الصادرات السورية، وهو يفسر الموارد المالية التي تساعد النظام السوري على إدارة “الاقتصاد” السوري على مدى عقد من الزمان.
واضح أنه مع انهيار الاقتصاد السوري وحرمان الخزينة السورية من معظم مواردها النفطية والزراعية والسياحية، وضعف النشاط الصناعي باتت تجارة المخدرات بما فيه الحشيش والمنبه من نوع الأمفيتامين “الكبتاغون” تجارة مربحة التي لا يمكن منطقياً أن تتم دون علم وربما بإشراف مباشر من النظام السوري وإلا كيف يتم تهريب هذه الكميات الهائلة من المخدرات من مرفأ اللاذقية الرسمي! بل إن مكتب السيدة والي لمكافحة المخدرات والجريمة يصرح بأنه يمكن تتبع صادرات الكبتاغون التي تم اعتراضها عبر المناطق الخاضعة اسمياً لسيطرة الحكومة السورية، بما في ذلك المعابر (أي معبر نصيب مع الأردن) وطرق التهريب (عبر درعا والسويداء وريف حمص الغربي)، ومرافق الموانئ. (اللاذقية وطرطوس)، ويؤكد على أنه تتمركز زراعة القنب على طول الحدود مع لبنان التي يسهل اختراقها، ويرجح التقرير بأنه يتم إنتاج القنب والعقاقير الاصطناعية بدرجات متفاوتة في كل أرجاء سورية.
إن قيمة صادرات المنتجات الزراعية السورية، حسب غرفة زراعة دمشق وريفها، خلال العام 2020 كان منخفضاً جداً حيث بلغ 96.8 مليون دولار فقط، وحسب تصريح وزير اقتصاد النظام السوري سامر الخليل في فبراير/شباط 2021، فإن صادرات سوريا عام 2020 بلغت فقط مليار يورو وهو أقل بعشر مرات مما كان عليه قبل عام 2011، بمعنى أن قيمة الصادرات السورية كلها أقل بثلاثة أضعاف من القيمة التقديرية لصادرات المخدرات السورية الأصل 3.4 مليار دولار، لذا بات من الواضح أن تجارة المخدرات باتت شريان مالي حقيقي لتمويل النظام السوري، ما يجعل اقتصاد النظام السوري باعتماده على الموارد المالية من تجارة الحشيش والمخدرات بمثابة “اقتصاد الحشاشين”!
ولعل غادة والي المدير التنفيذي لمكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة ومدير عام مكتب الأمم المتحدة في فيينا تعيد النظر في هذا الاختراق المرعب لمنظمات الأمم حيث سيطلع النظام على كل البيانات والنشاطات الخاصة بالأمم المتحدة الخاصة بتجارة المخدرات بحيث يتنبه لها النظام السوري وحلفاءه في لبنان.