يعمل المجتمع الدولي عبر أذرعه الإغاثية لإقحام مصطلح “التعافي المبكر” وتقوم المؤسسات الإغاثية السورية بتبني تلك المصطلحات مرغمةً، وتمضي في تقديم المقترحات لدعم برامجها الإغاثية خاصة المقدمة إلى مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “الأوشا” والتي هي هيئة تابعة للأمم المتحدة أنشأتها الجمعية العامة في كانون الأول / ديسمبر 1991 لتعزيز الاستجابة الدولية لحالات الطوارئ المعقدة والكوارث الطبيعية.
بالأصل مصطلح التعافي المبكر “إيرلي ريكوفيري” “Early Recovery” يُستخدم عقب انتهاء الحروب والصراعات والثورات وليس في أثنائها حيث إن “التعافي المبكر” يختص في مرحلة ما بعد الصراع وهو بطبيعته مزيج من السياسات المختلفة وتشكل أربعة خيوط رئيسية على الأقل المفاهيم الأساسية “للتعافي المبكر”: 1) أطر المساعدة الإنسانية 2) النمو الاقتصادي ونظريات التنمية 3) مفاهيم بناء السلام والأمن البشري 4) نماذج الحكم وبناء الدولة.
الأهداف الرئيسية من المساعدة في حالات الطوارئ هي لتوفير سلام فوري وواضح (الغذاء والمأوى والخدمات الأساسية) ومساعدة السكان على الاكتفاء الذاتي عبر الاستجابة السريعة واستخدام وكلاء محليين والتي هي المؤسسات السورية الإغاثية في الحالة السورية.
الأساس المنطقي الأساسي للتعافي المبكر هو دعم السلام من خلال تحسينات سريعة ومرئية في رفاهية السكان، وعادة لا يتم تغطية الأهداف الاقتصادية طويلة الأجل لأنها مشاريع ذات أثر غير سريع.
تتم مناقشة التعافي المبكر بعد الصراع بشكل رئيسي في سياق بناء السلام والأمن كما ورد في تقرير الأمم المتحدة بعنوان “خطة للسلام” (1992) الذي يعمّق النقاش حول بناء السلام بعد الصراع.
يجب أن تشمل سياسات التعافي المبكر استعادة قدرة الدولة على إنشاء الإدارة العامة والخدمة المدنية
تضمنت معظم السياسات حول التعافي المبكر بعد الصراع في إطار أوسع لـ “الدول الهشة”، حيث يجب تحديد هدف بناء الدولة والحوكمة فيما يتعلق بالانتعاش الاجتماعي والاقتصادي، كما يُنظر إلى بناء الدولة على أنه عامل حاسم لتحقيق الاستقرار وترجمة أنشطة الإنعاش المبكر إلى تنمية طويلة الأمد.
يجب أن تشمل سياسات التعافي المبكر استعادة قدرة الدولة على إنشاء الإدارة العامة والخدمة المدنية، وإنشاء آليات للرقابة والمساءلة والضوابط المالية وكذلك إعادة بناء المؤسسات السياسية التمثيلية وتكريس مفاهيم صادقة حول معنى السلطة الوطنية، والشرعية، والسياسات الفاعلة من أجل النهوض بالدولة، بعيداً عن النزاعات وهشاشة الدولة التي هي سبب رئيس للقلاقل والانتفاضات بوجه الظلم.
كذلك تتضمن سياسات التعافي المبكر اتخاذ قرار بشأن السياسات الاجتماعية – الاقتصادية وتحديد الأهداف الاستراتيجية والوعي بحصول تنازلات ومقايضات مجتمعية محتملة على طريق السلم الأهلي داخل البلد الواحد.
هناك هدفان أساسيان على الأقل لهما صلة بحالات التعافي المبكر وهما بناء السلام من خلال تجنب الانتكاس إلى الصراع والمدى المتوسط للوصول إلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأمد، فالتنمية وبناء السلام مترابطان وكلاهما وثيق الصلة، حيث إن بناء السلام هو الهدف الأسمى ثم تأتي التنمية لتدعم المرحلة الانتقالية بعد انتهاء الصراع.
إن نظرة سريعة للخريطة السورية يوضح للعيان استمرار الصراع ووجود ثلاث مناطق نفوذ، وأن فيها جيوش روسيا وأميركا وتركيا وإيران عدا القوى الأجنبية الأخرى والميليشيات بكل أنواعها، حيث تمتلك روسيا 83 موقعاً عسكرياً بين قاعدة ونقطة وجود موجودة في 12 محافظة، وكذلك يمتلك التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتّحدة الأميركية 33 موقعاً عسكرياً بين قاعدة ونقطة وجود ضمن 4 محافظات، وتمتلك تركيا 113 موقعاً عسكرياً في سوريا بين قاعدة ونقطة وجود ضمن 5 محافظات، وتمتلك إيران 131 موقعاً عسكرياً في سوريا بين قاعدة ونقطة وجود متوزعة على 10 محافظات، بينما تمتلك ميليشيا حزب الله 116 موقعاً عسكرياً في سوريا ضمن 9 محافظات.. إذا أضفنا إلى ما سبق تنفيذ الإسرائيليين لـ 80 هجوماً عسكرياً على مواقع عسكرية سورية خلال العام المنصرم فقط.. إذن أين هو “التعافي المبكر” الذي يبدأ بعد انتهاء الصراع؟..
إن الطرقات السورية نفسها مقسّمة حسب سيطرة القوى النافذة، حيث إن قوات النظام ضمن مناطق النفوذ الروسي تسيطر على 6245 كم من الطرق الرئيسية و6511 كم من الطرق الفرعية، وقوات قسد/ منطقة النفوذ الأميركي تسيطر على 1933 كم من الطرق الرئيسية و2128 كم من الطرق الفرعية، بينما تسيطر قوات المعارضة/ منطقة النفوذ التركي على 361 كم من الطرق الرئيسية و437 كم من الطرق الفرعية، فكيف لنا أن نتحدث عن تعافٍ إذا كانت الطرقات السورية بهذا التشظي.. عن أي تعافٍ مبكر نتحدث!
هنالك شبه إجماع أن طول فترة التعافي المبكر 2-3 سنوات بعد انتهاء الصراع – حصراً بعد الانتهاء من الصراع – مرحلة الطوارئ (12 شهراً) حيث يتم فيها توفير الاحتياجات الإنسانية الطارئة، ثم مرحلة التحول (12 -36 شهراً) والتي تعمل خلالها الحكومة على إرساء دعائم أسس التنمية وتضع الخطط من أجل تحفيز الطلب الكلي وتخلق فرص عمل وتشمل القطاع الخاص والعام والمصارف والإسكان واقتصاد السوق والمؤسسات.
يرتبط مفهوم المراحل الزمنية ارتباطًا وثيقًا بمسألة كيفية مواءمة آليات الإغاثة قصيرة الأجل وقضايا التنمية طويلة الأجل في حالة الانتعاش المبكر.
إن سوريا لم تدخل مرحلة توفير الاحتياجات الإنسانية الضرورية حتى في منطقة النفوذ الروسي حيث يعيش السوريون حالة مجاعة ونقص في الاحتياجات الأساسية من ماء وكهرباء وخبز ووقود للتدفئة والمواصلات و90 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، ولم تدخل كذلك لا في منطقة النفوذ التركي، ولا منطقة النفوذ الأميركي.
إن سوريا لم تبدأ في وضع خططها للتنمية الاقتصادية طويلة الأمد ولا في أي منطقة نفوذ، ولن تفعل إلا بعد التوقيع على صفقة سياسية بين أميركا وروسيا، بل إن النظام السوري توقف عن وضع الخطط الخمسية منذ عام 2011 ولم ينه أو يطبق الخطة الخمسية الحادية عشرة آنذاك.
لا يمكن الحديث عن التعافي المبكر في بلد لم تدخل في حل سياسي حقيقي وبدأت مرحلة العدالة الانتقالية، وتعلن عن سياسات حقيقية لاستعادة 8.8 مليون خارج سوريا، وتحصي أسماء أكثر من مليون قتيل ومئات آلاف السجناء، و7 ملايين سوري نازح خارج منازلهم لكنهم ما زالوا داخل سوريا في مناطق خارج سيطرة النظام.
مرحلة “التعافي المبكر” لا يمكن أن تستقيم مع بلد تم تدمير -خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2021- ثلاثة مشافٍ ومؤسسات صحية عدا مئات المشافي التي تم تدميرها على مدى عشر سنوات، ولا توجد فيه سياسات لاستيعاب أكثر من 2.4 مليون طفل غير ملتحقين بالمدرسة – حسب اليونيسيف- حيث لم تعُد واحدة من كل ثلاث مدارس داخل سوريا صالحة للاستخدام لأنها تعرضت للدمار أو للضرر أو لأنها تُستخدم لأغراض عسكرية.
تؤكد الأمم المتحدة وقوع حوالي 700 هجوم على منشآت التعليم وطواقم التعليم في سوريا منذ بدء التحقق من الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال، فكيف تتحدث مؤسسات الأمم المتحدة والمؤسسات الإغاثية الدولية منذ سنوات عن “برامج” للتعافي المبكر وقد أكدت اليونيسيف على شن النظام وحلفائه 52 هجوما على المدارس عام 2020!
إن الأوشا – حسب أدبياتها – تقوّم خطة الاستجابة الإنسانية لتلبية الاحتياجات التي ترتكز على ثلاثة أهداف استراتيجية: إنقاذ الأرواح وتخفيف المعاناة، وتعزيز الحماية، وزيادة القدرة على الصمود، والحقيقة أن الأهداف الثلاثة لا تستقيم ومصطلح “التعافي المبكر” الذي يأتي بعد أن توقف إزهاق الأرواح والبدء بعمليتين أساسيتين: 1- عملية إرساء السلام Peace Building
إن إصرار الأمم المتحدة والمجتمع الدولي على تسمية برامجهم الإغاثية “التعافي المبكر” قد يُفسّر على أنه نوع من إيهام السوريين
2- وعملية بناء الدولة State Building أما ما عدا ذلك فإن تسويق مصطلح “التعافي المبكر” هو مجرد تلبيس على السوريين منذ أكثر من ثماني سنوات بينما مرحلة التعافي المبكر تستغرق ثلاث سنوات على الأقصى بوجود حكومة وسيادة للدولة بعد انتهاء الصراع.
إن إصرار الأمم المتحدة والمجتمع الدولي على تسمية برامجهم الإغاثية “التعافي المبكر” قد يُفسّر على أنه نوع من إيهام السوريين منذ أن بدأت الأوشا عملها في سوريا على أنهم في مرحلة الاستقرار، والأنكى إيهام الإعلام وشعوب العالم أن الأمم المتحدة تساعد السوريين على الاستقرار حيث إنهم في طريقهم لبناء الخطط التنموية لدولتهم الوطنية بعد أن انتهى “الصراع”.. بينما هم في مستنقع للصراع الدولي على أرضهم يحلمون بحل سياسي ينهي كارثتهم.