ظهرت عبارة “اقتصاد السوق الاجتماعي” لأول مرة في عام 1949 كجزء من البيان الانتخابي للحزب الديمقراطي المسيحي CDU حيث كان في سياق تمييزه الحاد عن “الاقتصاد المخطط” من جهة ، و “الاقتصاد الحر” من جهة أخرى، وحتى يحول دون انتكاس الاقتصاد الألماني إلى “الاقتصاد الحر” ، كان لابد من تعزيز المنافسة، وقد تم اعتماده ببساطة من السياسات التي تمت صياغتها في العام السابق من قبل لودفيغ إيرهارد Ludwig Erhard في دوره كمدير Bizone المجلس الاقتصادي.
فاز الحزب الديمقراطي المسيحي في الانتخابات في أغسطس 1949 وبذلك أصبح إرهارد وزيراً للاقتصاد، وهو المنصب الذي احتفظ به حتى عام 1963 عندما خلف أديناور في منصب المستشار.
لذا ليس من المستغرب أن يُنظر إلى إرهارد على نطاق واسع على أنه مهندس ومنفذ المعجزة الاقتصادية الألمانية Wirtschaftswunder، وهي عملية تجديد اقتصادي تحت اسم “اقتصاد السوق الاجتماعي”.
لقد انبرى فريق اقتصادي سوري إلى تبني اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي أقره المؤتمر العام لحزب البعث السوري في عام 2005، لكن سعياً من ذلك الفريق لإرضاء القصر الجمهوري عملوا على التعمية على الجوانب الإنسانية والسياسية من سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي الألماني الصنع، فأرادوا أن يطبقوا تلك السياسة الاقتصادية بطريقة مجتزأة ومشوهة، وذلك لأن اقتصاد السوق الاجتماعي هو حزمة من خمسة بنود: احترام حقوق الإنسان، وسيادة القانون وتطبيقه بحزم، المشاركة الشعبية في العملية السياسية، نظام اقتصادي على طريق اقتصاد السوق الاجتماعي، وتدابير حكومية ذات توجه تنموي.
لقد أصرّ ذلك الفريق في حينها على التطبيق المبتسر والمجتزأ لسياسة اقتصاد السوق الاجتماعي، وحالهم يشبه حال مستورد سيارة المرسيدس الألماني الذي يقول بأنني أريد تلك الحافلة الرائعة لكن بدون المِقوَد وبدون العجلات الخلفية! مع أنها وحدة واحدة واستثناء جزء رئيسي منها سيمنع منطقياً عمل السيارة فهي كما يقال في الغرب “وان باكيج” One Package، فكما لايمكنك أن تشترط أن تستغني عن لوحة المفاتيح والشاشة في الكومبيوتر الذي أعجبك وتريد أن تشتريه لايمكنك في نفس الوقت استيراد فكرة “اقتصاد السوق الاجتماعي” وتتخلى عن أهم بنوده الرئيسية الخمسة لأنها ببساطة”وان باكيج”!
فصل الليبرالية الاقتصادية عن الليبرالية السياسية كان هو عين فشل تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي في سوريا وأصابه في مقتل، وكنّا كلما تحدثنا ودبّجنا المقالات يقول الفريق الاقتصادي الحكومي والمحيطون بهم، والذين يفترض بهم المهنية والموضوعية، أننا -أي كل من يوجه تصويب أو نقد لأدائهم- نريد خلط “السياسة” بالاقتصاد! عجباً لهم! فلماذا يقومون بتدريس مادة الاقتصاد السياسي في كليات الاقتصاد السورية “الموجهة حكومياً”؟
قام النظام بكشف تغول رامي مخلوف وشركاته القابضة وسيطرته على البنوك السورية إثر خلافه مع القصر الرئاسي تأجج في الشهر الرابع عام 2020 حيث أظهر إعلام النظام ووزارة ماليته أن لديه خمسة ملايين سهم في 12 مصرفاً سورياً ، طبعاً على الأغلب لم يدفع منها فلساً واحداً وكانت بمثابة حصته للسماح لهم بالعمل في سوريا، بينما بطانته من الفريق الاقتصادي “المهني” كان يفّصل له القوانين ويحميه ويغرر برجال الأعمال السوريين كي يزيد تغوله ويلقي على المصلحين تهم “خلط السياسة بالاقتصاد”!
إن الإطار الحوكمي السوري من حيث الشفافية والمساءلة والمحسوبية والفساد الإداري لايمكن معه إنجاح أي مشروع اقتصادي ولا تنفعه تصريحات على صفحات صحيفة البعث والثورة وتشرين وقد ذكرتُ هذا بالحرف في محاضرة لي في غرفة الصناعة في سوريا عام 2004 ولم تعجب “المهنيين” الوصوليين!
حيث إن المستثمرين الوطنيين والأجانب لن يستمعوا لإدعاءات فريق النظام الاقتصادي التي تعشق حالة الإنكار، وتلفق المبررات التي لاتنطلي على أي سوري عادي لايكفيه راتبه لآخر شهر، ولاتُقنع مليون عاطل عن العمل عام 2005، أو ثلث السوريين تحت خط الفقر حسب تقرير حالة الفقر في سوريا عام 2004 الذي نفذه برنامج الأمم المتحدة، ولايصغي لمآسي رجال الأعمال والصناعيين الذين استغلتهم واجهات النظام الاقتصادي بحيث يسمح للمستثمرين بالمشاريع شرط أن يقاسم المستثمر 30-50 % من ربحه لواجهات اقتصادية دون أن يدفع قرشاً واحداً، وهو نوع من الإتاوة الضرورية من أجل أن يتفضل “السلطان” وحاشيته وواجهاته “المهنية” بالسماح للمستثمر بممارسة نشاطه.
وصل معدل البطالة إلى أكثر من 16 % في عام 2006-2007 ، كان معدل البطالة حينها الأعلى بين الشباب (سن 15-24) 22%، كما تموضعت سوريا عام 2011 كأسوأ 70 دولة في العالم على مؤشر التنمية البشرية حيث كانت سوريا الدولة 119من أصل 187 دولة، وعلى مؤشرات ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2011 ، احتلت سوريا المرتبة 144 من أصل 183 دولة.(دونغ بزنسس عام 2011 – البنك الدولي)، ورغم أكثر من 1000 مرسوم تشريعي وقانون مابين عامي 2000 و2010 من أجل تحرير الاقتصاد فإن تصنيف سوريا عام 2011 على مؤشر الحريات الاقتصادية لمؤسسة فريسر الكندية بأنها أسوأ 13 دولة في العالم حيث كانت سوريا الدولة 128 من أصل 141، وعلى مؤشر الفساد والشفافية كانت سوريا عام 2011 (قبل الثورة) الدولة 137 من أصل 180.
إن “اقتصاد السوق الاجتماعي” الألماني المنشأ بريءٌ ممن ادّعوا محاولة تطبيقه في سوريا، فالفساد ضارب أطنابه في كل جنبات الحياة العامة في سوريا والبيئة التشريعية والإنسانية و السياسية تشكل بيئة طاردة للموارد المالية والبشرية فلم يعد هنالك سوقٌ ولم يعد هنالك بعدٌ اجتماعيٌ للاقتصاد، وبقي النظام يحيط نفسه ببطانة “مهنية” وصولية ووكلاء حصريين لذلك الاقتصاد المسكين، حتى انفجرت جموع البشر في وجه ذلك السلطان الجائر وبطانته، ودفعت سوريا ثمن فصل السياسة عن الاقتصاد!
بينما كان تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي وراء المعجزة الاقتصادية الألمانية، كان تطبيقه المجتزأ والمشوه سبباً في ثورة عارمة في سوريا لم تبق ولم تذر!