عمان- بعد قرابة تسع سنوات من الحرب، لا يكاد هناك ما يجمع السوريين، معارضين وموالين، سوى تفاقم الصعوبات المعيشية التي يبدو أنها تتناسب عكسياً مع انحسار رقعة المعارك، ولا سيما مع انهيار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار مؤخراً، الأمر الذي انعكس ارتفاعاً كبيراً في أسعار السلع الأساسية خصوصاً، على امتداد الجغرافيا السورية.
وحتى قبيل بدء الانهيار الأخير في سعر الليرة السورية، أشار تقرير للأمم المتحدة، في آذار/مارس الماضي، بشأن الاحتياجات الإنسانية في سوريا، إلى أن 83% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، فيما يعاني 33% من السكان من انعدام الأمن الغذائي.
لكن على سوداوية الصورة في أغلب مناطق سوريا، فإنها تبدو أشد قسوة في محافظة إدلب، حيث يتواجد ملايين النازحين إذ فقد كثير منهم أغلب ما يملكون، كما يتواصل استمرار استهداف القوات الحكومية والروسية والمليشيات المتحالفة معها للمدنيين.
نزوح اقتصادي
تحتضن محافظة إدلب نحو أربعة ملايين ونصف المليون نسمة، بين مقيمين ومهجرين من محافظات أخرى، يعيش “نحو 80% منهم تحت خط الفقر”، بحسب مدير منظمة “منسقو الاستجابة” محمد حلاج. عازياً ذلك إلى تفشي البطالة بين السكان، بحيث “تجاوزت نسبتها 90%”، كما قال لـ”سوريا على طول”. وهو ما يعني أن أي ارتفاع في الأسعار، ولو بنسبة بسيطة، يشكل هاجساً كبيراً لدى سكان محافظة إدلب، كما في حال الأربعيني عمر الحاج، المهجر أصلاً من مدينة مضايا بريف دمشق.
فمع أن الحاج عايش النزوح أكثر من مرة داخل محافظة إدلب، بسبب قصف القوات الحكومية، إلا أن نزوحه الأخير، كما قال لـ”سوريا على طول”، كان بسبب عدم قدرته على دفع إيجار المنزل الذي يقطنه، بعد رفع المالك قيمة الإيجار من 20 ألف ليرة سورية [23 دولاراً بسعر صرف اليوم، والبالغ قرابة 888 ليرة للدولار] إلى 40 ألفاً [46 دولاراً]، تماشيا مع هبوط سعر الليرة. إذ خرج من المنزل، كما قال “منذ أسبوع وعيناي غارقتان بالدموع، لا أعرف ماذا أفعل، إلى أن انتهى بي الحال إلى نصب خيمة في أرض زراعية في مدينة سرمدا يعيش فيها العديد من العائلات النازحة، في ظل برد قارس أعيشه مع أطفالي الثلاثة وأمهم”.
ويعاني الحاج من شلل في يده اليسرى، بسبب شظية أصابتها في مدينته مضايا قبل تهجيره إلى إدلب، ما يعني عدم قدرته العمل بأشغال شاقة إن توفرت. وقد لجأ من ثم، إلى “الاتفاق مع مالك سيارة تكسي، للعمل سائقاً في المحرر [المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة]”، على أن يحصل مالك السيارة على “نصف أجرة كل راكب يصعد معي. فكنت أجمع ما يقارب 2000 ليرة [دولاران] في اليوم الذي أعمل فيه”، مشيراً إلى أنه لم يكن يحظى بدوام يومي، نتيجة “خوف الزبائن من الركوب معي لأني بيد واحدة”.
ومؤخراً، توقف عمل الحاج بشكل نهائي بسبب “قلة تنقل الناس مع الغلاء الشديد بشكل عام، وارتفاع أسعار أجور النقل مع غلاء [أسعار] الوقود، المرتبطة بسعر الدولار والليرة التركية”، ما عنا بدوره أن يقتصر طعامه وعائلته على “وجبة واحدة في اليوم، هي عبارة عن زيت وزعتر”.
فوضى أسعار: الليرة والسلع الأساسية
قبل أيام، تداول ناشطون صوراً لعيادة أحد الأطباء علّق على بابها ورقة كتب عليها: “المعاينة 5 دولار، أو ما يعادلها سوري”. وهو ما أثار سخط العديد من أهالي إدلب، باعتبار ذلك جشعاً واستغلالاً للناس.
وقد أدى انخفاض الليرة المتواصل، كما ذكر عمران الرحال الذي يعيش في مدينة إدلب، إلى “ارتفاع أسعار جميع المواد الغذائية بنسبة 50%. كما ارتفعت أيضاً أجور المعاينات الطبية لدى أطباء القطاع الخاص، فيما يتقاضى بعضهم أجره استناداً إلى سعر صرف الدولار”.
هكذا، فإن الرحال، متزوج وأب لطفلين، ويعمل في ورشة دهان لقاء 30 ألف ليرة [34 دولارا]، كان يستطيع “سابقاً تأمين وجبة واحدة يومياً لعائلتي بمبلغ ألف ليرة [ دولار واحد]. أما الآن، فحتى مبلغ ثلاثة آلاف ليرة [4 دولارات]، لم يعد يكفي في ظل الغلاء الفاحش الذي نعيشه، مستبعدين مصاريف الرفاهيات التي تتمثل في شراء ثياب جديدة لأطفالي، والأكلات المكلفة، و[مع الاعتماد على] التدفئة باستخدام الثياب المستعملة”.
وكما أوضح، فقد “بلغ سعر الكيلوغرام الواحد من الخبز 300 ليرة سورية [0.3 دولار]، بينما كان قبل هبوط الليرة الحاد بـ200 ليرة [0.2 دولار]. وكيلو السكر 21 ألف ليرة [24 دولارا] بعد أن كان 13 ألف ليرة [15 دولارا]، وكيلو الرز 700 ليرة [0.8 دولار] مقارنة بـ300 ليرة [0.3 دولار] سابقاً”.
لكن التجار في شمال غرب سوريا يرون أنفسهم أيضاً ضحايا التدهور السريع في سعر الليرة مقابل الدولار، كونهم يدفعون ثمن وارداتهم من تركيا بالدولار، يضاف إلى ذلك ارتفاع تكلفة نقل البضائع عبر المعابر بحكم ارتفاع أسعار المحروقات.
وكما أوضح عبدو فتاح، المالك لمتجر مواد غذائية في مدينة حاس بريف إدلب، فإن البضاعة المستوردة للأسواق المحلية من تركيا يتم دفع ثمنها بالدولار، فيما تباع للمستهلك بالليرة السورية. ومن ثم “نكون أمام فارق كبير وخسارة في التحويل المصرفي”، كما قال لـ”سوريا على طول”. مشدداً على أنه يبيع السلع بزيادة مربح بسيط من دون أن يرفع السعر كلما ارتفع الدولار، حتى نفاد الكمية، لكن “السعر يتغير كلما اشتريت كمية سلع جديدة، مع تغير قيمة الليرة”.
كذلك، يلفت عبدو الجميلي، أحد تجار المفرق للمواد الغذائية في مدينة الباب بريف حلب الشمالي، إلى انخفاض “إقبال الناس على الشراء بشكل ملحوظ نتيجة الغلاء”. ذلك أن المواطن، كما ذكر لـ”سوريا على طول”، كان سابقاً يستطيع شراء حاجياته الأساسية بمبلغ 10 آلاف ليرة [11 دولارا]، أما الآن فإن هذا المبلغ لا يكفيه إلا لشراء سلعة أو اثنتين فقط. وبالتالي قلّ بيعنا وكسدت بضاعتنا”، مشيراً إلى أنه كان يستورد 10 أطنان من السكر في كل دفعة سلع يشتريها، أما الآن فيكتفي بنصف الكمية.
لكن الرحال رأى أن “هناك استغلالاً واحتكاراً كبيرين من تجار السلع الغذائية، كالسكر والزيت والرز. فمنهم من رفع أسعار سلعه بالرغم من أنه اشترى بضاعته وخزنها في المستودعات مذ كان سعر صرف الدولار 500 ليرة”.
عجز “حكومي” يزيد عبء المواطن
تتنازع السيطرة على شمال غرب سوريا حكومتان، هما “حكومة الإنقاذ” المنبثقة عن هيئة تحرير الشام؛ الفصيل العسكري المهيمن في المنطقة، في مقابل الحكومة السورية المؤقتة المنبثقة عن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية.
ومنذ بدء التراجع الحاد في قيمة الليرة السورية، أصدرت “حكومة الإنقاذ” قراراً وحيداً يقضي بخفض وزن ربطة الخبز في المناطق الخاضعة لنفوذها، بحيث “كنا نشتري 875 غراماً من الخبز (10 أرغفة)، بمبلغ 200 ليرة سورية [0.2 دولار]، فيما اليوم نشتري 825 غراماً (9 أرغفة) بالسعر نفسه”، بحسب الرحال.
الأمر ذاته تم تطبيقه بشأن توفير المياه والكهرباء، كما أوضح الرحال أيضاً. فقد “كانت تصلنا المياه والكهرباء ثلاث ساعات يومياً بسعر ستة آلاف ليرة [7 دولارات] شهرياً لكل منهما، أما الآن فلا تصلان منازلنا إلا ساعة ونصف الساعة يومياً، مقابل سعر الاشتراك نفسه”، معتبراً أن “حكومة الإنقاذ لا تسن أي قوانين لا تصب في صالحها، أما صالح المواطن فهو آخر ما تفكر فيه”.
في المقابل، تسعى الحكومة المؤقتة، كما قال وزير الاقتصاد فيها عبد الحكيم المصري، إلى “الحفاظ على القوة الشرائية للمواطنين من خلال عدم التعامل بالليرة السورية، كي لا تتأثر مدخرات الأهالي من العملة المحلية إن وجدت”.
وأضاف المصري لـ”سوريا على طول” أن “عملية ضخ العملة التركية ستكون عن طريق رواتب العاملين. كما نسعى إلى ضخ الأوراق النقدية الصغيرة من فئة 5 و10 و20 ليرة تركية في أسواق الشمال السوري لتسهيل المعاملات اليومية للمواطنين”.
وكان المجلس المحلي في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي، أصدر تعميماً في 10 كانون الأول/ديسمبر، منع بموجبه تداول العملة السورية من فئة ألفي ليرة، وحدد مدة شهر من تاريخ القرار لإتلافها واستبدالها. رافق ذلك قرار آخر في اليوم نفسه، بتسعير الذهب بالليرة التركية، “حفاظاً على المصلحة العامة، ولعدم استقرار سعر الليرة السورية”، وفق البيان.
في المقابل، أقر المصري بعدم قدرة الحكومة المؤقتة، رغم مساعيها الأخيرة، على ضبط أسعار السلع في الأسواق، “لعدم تواجدنا على الأرض”، معتبراً أنه “يجب على المستهلك حماية نفسه بنفسه من جشع التجار”.
في السياق ذاته، اعتبر رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا، أسامة القاضي، أن تفعيل دور الحكومة المؤقتة على الصعيد الاقتصادي والمعيشي يحتاج إلى تمكين هذه الحكومة. معتبراً في تصريح لـ”سوريا على طول”، أن هذا الأمر “متوفر في الحد الأدنى، لكنه لا يكفي ليضمن استقراراً اقتصادياً للسوريين خارج سيطرة النظام”. وبالتالي سيظل المواطن هناك “يعاني من تذبذب صرف الليرة السورية، ويتحمل آثار الكوارث الاقتصادية وسوء إدارة الاقتصاد من قبل النظام إلى أن تتمكن الحكومة المؤقتة من إدارة تلك المنطقة اقتصادياً، بعد أن تعرف الحدود الحقيقية لها”.
ورأى القاضي أن تداول السكان للعملة التركية إلى جانب السورية في مناطق شمال غرب سوريا، هو “أمر فرضه واقع تلقي عشرات الموظفين رواتبهم بالعملة التركية، إذ يلجأ الفرد للعملة الأكثر استقراراً”. منبهاً في الوقت ذاته إلى أن “هذا لا يكفي لاستقرار اقتصادي مؤقت من دون ضخ دعم بما لا يقل عن مليار ليرة تركية شهريا”، وبما “سيخلق فرص عمل، ويحرك عجلة التنمية الاقتصادية في تلك المنطقة”.
كذلك، ينبغي على الحكومة المؤقتة، بحسب القاضي “صرف رواتب عشرات ألوف العاملين في مناطق درع الفرات ونبع السلام وكل إدلب عن طريق وزارة المالية في الحكومة المؤقتة”، كون “أي تعامل مالي للموظفين في الجيش الوطني أو الصحة أو التعليم بعيداً عما فرضته الحكومة، سيضعف دورها في إدارة النقد وفي إدارة مواردها”.
ما لجرح بميت إيلام
تبدو الصورة في أشد تجلياتها قسوة في حال بعض الأسر التي لم تتأثر بالارتفاع الكبير الأخير للأسعار، بسبب فقرها الشديد أصلاً، بحيث لم يكن باستطاعتها سابقاً شراء الحاجيات الأساسية.
فالحاج أبو باسم الذي يعيش مع زوجته المسنة في قبو صغير مهجور تتآكله الرطوبة الشديدة، في بلدة أخترين بريف حلب الشمالي، لا يتعدى طعامه اليومي “وجبة تتكون من خبز وزيت وزعتر، وأحياناً رب البندورة”، كما قال لـ”سوريا على طول”، يحصل عليها وزوجته “صدقة، بعد استشهاد ابني باسم في القصف وفقدان معيلنا الوحيد”.
وتعمل المنظمات الإنسانية في مناطق شمال غرب سوريا وفق برامج ثابتة وبرامج طوارئ. يقوم على الثابتة برنامج الغذاء العالمي الذي يوزع “60 ألف سلة غذائية شهرياً في المنطقة، النسبة الأكبر منها تذهب لنازحي المخيمات الحدودية”، بحسب حلاج. أما برامج الطوارئ غير الثابتة، فتعتمد على ما تقدمه المنظمات المحلية غالباً تبعاً للحاجة الماسة واستجابة الداعم. في هذا السياق، كما أضاف حلاج، “وزّعت منظمة “تكافل الشام” مخصصات محروقات على عائلات نازحة في سرمدا وكفرلوسين ودير حسان [في محافظة إدلب]، كما وزّعت منظمة بنفسج مادة المحروقات على 1600 عائلة في مدينة إدلب”.
لكن نسبة الإستجابة الإنسانية للمنظمات “لم تتجاوز 40% من المحتاجين للمساعدة في محافظة إدلب”، بتقدير حلاج.
وهو ما عبر عنه أبو باسم بقوله: “إن كنت أجد من يعينني في هذه الحياة ويؤمن لي ما آكله، فإن هناك كثير من العائلات والأطفال لا يجدون ما يأكلونه”.