شهدت الليرة السورية تدهوراً كبيراً خلال الأيام الماضية، لتبلغ أدنى مستوى في تاريخها وتسجل 900 ليرة أمام الدولار، وسط صمتٍ متواصلٍ “للبنك المركزي” التابع للنظام، الأمر الذي خلق حالةً من الاستياء والقلق لدى السكان، وزاد تساؤلهم عن الأسباب الحقيقية وراء هذا التدهور السريع في قيمة العملة المحلية، وهل ستستمر في التراجع وتصل إلى مستوياتٍ كارثية؟.
موقع تلفزيون سوريا التقى عدة خبراء اقتصاديين للوقوف على الأسباب الحقيقية لتدهور الليرة، وفي هذا السياق قال رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا الدكتور أسامة قاضي: إن “الضغوط على الليرة ازدادت حدةً مع الثورات التي انطلقت في العراق وإيران ولبنان، وهذا حرم النظام من الدعم الاقتصادي له من تلك الدول، واضطر التجار السوريين لشراء العملة الصعبة من السوق السوداء في سوريا، بعد أن كانوا يحصلون على الدولار من لبنان لتمويل المستوردات لأن سعره منخفض”.
صراع داخل النظام
من جهته يسرد الباحث الاقتصادي يونس الكريم أبرز أسباب تراجع الليرة السورية قائلاً: “الصراعات داخل أجنحة النظام كانت أحد أسباب تراجع الليرة، حيث برزت خلافات بين آل مخلوف والبعثيين من جهة، والذين يعتبرون الدولة السورية هي ملك للنظام، وليس من حق أحد أن يستحوذ على الاستثمارات وممتلكات الدولة، وبين أسماء الأسد واتباعها من جهة أخرى، والذين يجدون أنه لا مانع من إعطاء مشاريع سيادية لروسيا وإيران، طالما أنهما تدعمان الأسد فقط وتحافظان على بقائه”.
كما برز خلاف بين البنك المركزي ورجال الأعمال السوريين خلال اللقاء في فندق الشيراتون بدمشق في أيلول الماضي، حول موضوع صندوق دعم الليرة السورية، وهذا الخلاف خلق حالةً من القلق لدى السوريين والمستثمرين، فسارعوا إلى تبديل الليرة بالدولار، وهذا أثّر بشكلٍ كبير على سعر صرف الليرة، وفق ما ذكر الكريم لموقع تلفزيون سوريا.
وطُرحت مبادرة من رجال أعمال سوريين قبل شهرين تحت عنوان “عملتي قوتي”، لإنشاء صندوق لدعم الليرة بحوالي مليار دولار، إلا أن الكثير من رجال الأعمال عزفوا عن الإيداع في هذا الصندوق المخصص لدعم الليرة السورية.
وأضاف الكريم أن “العملية التركية ضمن مناطق الوحدات الكردية، وحرمان الأسد من النفط بعد السيطرة الأميركية عليه شرق الفرات، حرمه من بيع المحروقات لمناطق المعارضة ولبنان التي تؤمن له القطع الأجنبي، اضافةً إلى عدم اتخاذ النظام أي إجراء من شأنه أن يوحي للسوريين والمستثمرين أن الليرة ستتعافى قريباً، فضلاً عن الحراك الثوري في لبنان والعراق كون هاتين المنطقتين تعتبران رئتي النظام الاقتصادية، واستمرار العقوبات الأميركية والأوروبية على النظام، كلها أسباب سرّعت من تدهور الليرة السورية”.
أما الباحث المختص في الشأن الاقتصادي الدكتور فراس شعبو، يرى أن “الزيادة الوهمية على الراتب مؤخراً كانت عاملاً سلبياً وليس ايجابياً، فالنظام سعى بغية إنقاذ الليرة إلى إيجاد حل للنتيجة وليس السبب، ففي المشاكل الاقتصادية يجب البحث عن حل جذري للأسباب التي أدت إلى تراجع الليرة، وليس حل للنتائج التي حصلت نتيجة ذلك التراجع، وبالتالي زيادة الراتب أعطت للمستثمرين والتجار مؤشراً أنه يمكن رفع الأسعار بشكل جنوني، وهذا خلق حالة قلق ونظرة تشاؤمية لدى المواطن من المستقبل، ما دفعه للمسارعة لشراء الدولار، ما ساهم في زيادة تراجع الليرة”.
من جهته قال الخبير الاقتصادي محمد بكور: إن “تراجع الليرة يأتي نتيجة أمور تراكمية زادت الضغط على العملة المحلية إلى أن وصلت إلى مرحلة خطيرة وبدأت بالتدهور سريعاً، فسيطرة الأسد على مناطق واسعة من سوريا كانت نقمة عليه، حيث حرمته من القطع الأجنبي الذي كان يصل إلى المناطق المحررة عبر الدعم المقدم من المنظمات، كما أن الأسد قبل سنوات كان يسيطر على 35% من سوريا فقط، وكان يقدم الخدمات إلى جزء من الأراضي السورية، أما اليوم بات مُطالباً بأن تغطي خدماته مساحات واسعة، ما أدى إلى تحميله تكاليف أكبر أضعفت اقتصاده المتهاوي”.
وأضاف بكور أن “السياسة الخاطئة للمصرف المركزي ساهمت في استنزاف الاحتياطي لديه من القطع الأجنبي والذي كان يبلغ 18 مليار دولار، كما أن العقوبات الاقتصادية حرمت النظام من الصادرات التي كانت تؤمن القطع الأجنبي له، وبالتالي لم يعد يملك أدوات للتدخل والسيطرة على سعر الصرف، وهذا ما يُفسّر صمت المركزي خلال الفترة الأخيرة وعدم قيامه بأي اجراء لإنقاذ العملة المحلية”.
ما مصير الليرة؟
وفي ضوء هذا الواقع يرى أسامة قاضي أنه “ليس بإمكان النظام إيقاف تدهور العملة والاقتصاد عموماً، فالمصرف المركزي سيمتنع عن التدخل مرغماً بسبب الضغط الهائل على مايملكه من عملة صعبة وبسبب حالة الغليان في لبنان والعراق وإيران، كما أن الإجراءات الأخيرة للمصرف المركزي بتحديد سقف السحب اليومي بعشرة مليون ليرة، ستسبب فزعاً أكبر للحركة الصناعية والتجارية البسيطة، وسيتسبب ذلك في السعي لسحب أكبر كم من الأرصدة وتحويلها إلى عملة صعبة وتهريبها، وهذا يستدعي انخفاضاً جديداً وربما بشكل أكبر حدة في سعر الليرة”.
ولفت قاضي إلى أن “ما تبقى من شعب سوري في الداخل السوري يعتمد بأقل من ثلثه على الرواتب الحكومية كما كان قبل عام ٢٠١١، ما يدل على أن المعني بالزيادة الأخيرة في الرواتب رغم ضآلة أثرها تخص حوالي ثلث السكان، ولكن كل السوريون معنيون بارتفاع الأسعار في ظل انهيار العملة دون أن تمسهم هذه الزيادة الطفيفة، التي ابتلعها التضخم الهائل الذي تجاوز 800%، وهذا ما سيزيد الضغط على المستوى المعيشي للمواطن المنخفض أصلاَ”.
من جهته يرى يونس الكريم أن “تحسين الليرة يتطلب اجراءات عديدة أبرزها إقالة حاكم مصرف سوريا المركزي ووزير المالية، وإعادة البنك إلى دوره الفعلي بالتحكم في السياسات النقدية ورسمها بشكل صحيح، وإلغاء قرارات وزارة المالية من منتصف عام 2018 وحتى الآن، كونها كانت لاعباً أساسياً في خلق حرب بين النظام والتجار، وقضت على حركة النشاط التجاري، مما زاد التضخم وخفّض قيمة الليرة”.
وأوضح الكريم أن “تحسين الليرة يحتاج أيضاً إلى إعادة الطمأنينة للتجار عبر إلغاء قرارات رئاسة وزراء النظام التي تحد من تمويل المستوردات، وإعادة ترتيب صندوق الدعم المقدم من رجال الأعمال، ومحاربة الشائعات التي تؤثر على قيمة العملة، وإعلان حالة الطوارئ الاقتصادية”، مشيراً إلى أن “استمرار تراجع الليرة فوق حاجز 870 ليرة أمام الدولار، سيجعل الموازنة العامة تفقد قيمتها، وهذا يؤدي إلى انهيار مؤسسات الدولة، أي توقف المؤسسات عن تقديم السلع والخدمات للمواطنين، وستضطر الدولة لوقف الدعم عن مختلف السلع، ما يدفعها إلى الاستدانة لتأمين السلع”.
تجدر الاشارة إلى أن الليرة السورية بدأت بالتراجع بشكل تدريجي عقب اندلاع الثورة السورية، وبلغت ذروة تدهورها عام 2016 حين وصلت لـ 645 أمام الدولار، إلا أنها عادت للتحسّن نسبياً في عامي 2017 و2018 وتراوحت ما بين 450-500 ليرة، ثم بدأت تتراجع في 2019 إلى أن وصلت إلى انهيار قياسي هذا الأسبوع بلغ 900 أمام الدولار.