استقر سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي خلال اليومين الماضيين بشكل جزئي عند حاجز الـ 800 ليرة مقابل الدولار الأمريكي الواحد في مختلف المحافظات السورية، بعد أن انهارت العملة السورية خلال الأسبوع الماضي حيث وصل سعر صرفها أمام الدولار إلى قرابة الـ 1000.
انخفاض الليرة وارتفاع أسعار المواد الغذائية التي يضطر السكان لشرائها بشكل يومي شكل حالة من القلق لديهم، ما دفعهم للمطالبة بإيجاد حلول بديلة، على سبيل المثال في الشمال السوري الخارج عن سيطرة روسيا وميليشياتها كالتعامل بالدولار أو العملة التركية.
تساءل الكثير عن أسباب انهيار الليرة السورية؟ وإلى أين تسير؟ وما تأثير ذلك على نظام الأسد؟ وهل سيكون تغيير العملة شمال سوريا كفيلاً بإنهاء معاناة السكان؟ ، وبهذا الصدد أجرت شبكة “نداء سوريا” حواراً مع الدكتور “أسامة القاضي” رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا، والذي كشف بدوره عن التفاصيل التالية:
– إلى أين تسير الليرة السورية؟
القاضي: العملة الوطنية السورية تمر بأسوأ كارثة اقتصادية منذ تاريخ نشوئها، حيث تدهورت قيمتها بشكل لم يسبق له مثيل.
إن واقع الاقتصاد السوري الكارثي لا ينبئ بمستقبل أفضل لليرة السورية التي لا يوجد لها حامل حقيقي من حجم سلع وخدمات خصوصاً بعد حرمان ناتج الدخل القومي من مساهمات النفط والسياحة وشلل شبه نصفي في الزراعة والصناعة والتجارة.
إن التدخل المكياجي ذي النكهة الأمنية في السوق من ضغط على الصرافين لدفع إجباري لمبلغ خمسة ملايين دولار أو إجبار بعض التجار على دفع عشرة ملايين دولار أو سجن بعض الصرافين وغيرها من الأدوات الأمنية المصرفية ستكون مثبطة لتسارع هبوط الليرة، ولكنها لا يمكن أن تكون حلاً حقيقياً للنهوض بقيمة الليرة.
هل سيكون لهبوط الليرة أي تأثير على نظام الأسد؟
القاضي: تعرض الاقتصاد الوطني لكوارث له تأثير على السلطة السياسية في الدول المدنية، أما في الدول الديكتاتورية فإن أثر الانهيار الاقتصادي على الحكام شبه معدوم، لأن الأزمة الاقتصادية تخنق الشعب اقتصادياً ويباد أي احتجاج بالحديد والنار، بحيث لا يهتز عرش النظام المستبد، فها هو “روبرت موغابي” في الموزامبيق ظل متمسكاً بالسلطة 30 عاماً حتى صار عمره 93 سنة رغم الانهيار الاقتصادي والتضخم الذي بلغ أكثر من 70 ملياراً بالمائة! وأزيل عن حكمه بانقلاب وطرد طرداً عسكرياً وليس اقتصادياً رغم أن عملة الموزامبيق وصلت إلى أن دولاراً أمريكياً واحداً يعادل ملياري دولار زيمبابوي!.
لدينا في رئيس فنزويلا مادورو نموذج أيضاً ، حيث لم تنهَرْ سلطته السياسية بسبب الكارثة الاقتصادية رغم أنه في تموز 2018 أعلن صندوق النقد الدولي أن فنزويلا في حالة “انهيار اقتصادي”، وسط معاناة البلاد من تضخم مفرط، غير مسبوق، مع وصول التضخم في العام 2018 إلى 14.000 في المئة!!.
وقامت فنزويلا بخفض قيمة العملة وحذف 5 أصفار، كجزء من الإجراءات الهادفة لوقف انهيار الاقتصاد، ووقف التضخم الجامح.
رغم أن الأزمة الاقتصادية في فنزويلا أجبرت نحو 3.2 مليون فنزويلي على الهجرة منذ عام 2015، من شدة معاناتهم من انخفاض مستوى المعيشة والفقر، لكن الرئيس “المفدى” ظل على العرش يحارب “ضد الإمبريالية ” رغم أن فنزويلا دولة غنية بالنفط، حيث قدرت احتياطاتها المؤكدة بنحو 303 مليارات برميل في نهاية سنة 2017، و “مادورو” بالمناسبة صديق النظام السوري وممن شارك في معرض “دمشق الدولي”!.
إن “الكائنات” السياسية المتسلطة بوحشية لا يؤثر فيها انهيار الاقتصاد بل يزيدها “حيونة سياسية” وتستمتع بمقاومتها لـ”الإمبريالية “، وبقاؤها بالسلطة رغم تدمير البلاد وسحق الشعب وتجويعه يعد “نصراً” مؤزراً.
– ما دور “حزب الله” اللبناني في الأزمة خاصة أن وسائل إعلام أكدت سحبه للدولار من أسواق دمشق؟
القاضي: هناك الكثير من الإشاعات سواء بتزوير العملة أو تهريب الدولارات عبر الحدود، ولكن السبب الواضح هو أن الوضع الاقتصادي الخانق في لبنان ضغط على التجار السوريين لشراء العملة الصعبة من السوق السوداء في سوريا بعد أن حال المصرف المركزي اللبناني بينهم وبين أموالهم المودعة في المصارف اللبنانية.
والأسوأ هو وضع سقف لسحب العملة الصعبة في لبنان وكذلك سوريا مما أدى لازدياد الضغوط على الليرة السورية وخفض قيمتها أمام الدولار بسبب ارتفاع الطلب مع نقص المعروض والمتاح، وواقع الأمر أنه في ظل الإجراءات الأخيرة للمصرف المركزي بتحديد سقف السحب اليومي بعشرة ملايين ليرة (12 ألف دولار) سيزيد الطين بلة وسيعمل على إحداث بلبلة إضافية للحركة الصناعية والتجارية البسيطة وسيتسبب في السعي لسحب أكبر كم من الأرصدة وتحويلها إلى عملة صعبة وتهريبها، ولن يعدم التجار وسائل تحايل ليسحبوا ما يشاؤوا في ظل أجواء الفساد المتضخم على مدى خمسة عقود، والذي اتسع في السنوات التسع العجاف الأخيرة.
وازدادت الأزمة حدة مع صعوبة تلقي النظام دعماً مالياً أو ائتمانياً من العراق أو إيران بسبب الغليان في البلدين و هما الآن في ظرف يصعب معه الوقوف إلى جانب النظام السوري في محنته.
– بالنسبة للشمال السوري، هل تغيير العملة سيكون بوابة للتخفيف من معاناة الناس؟ وما إمكانية تغييرها إلى العملة التركية مثلاً؟
القاضي: المشكلة أن الحكومة المؤقتة لازالت وليدة وهي تحتاج تقوية وتمكين إدارتها الاقتصادية المالية – فضلاً عن السياسية والعسكرية – وضبط عمليات الصرف والتداول، وكمثال على تمكين الحكومة هو أن تقوم وزارة المالية بصرف كل الرواتب للمدنيين والعسكريين عبر كوادرها الإدارية التي تشكل دولتها العميقة وليس من الداعم مباشرة.
إن حكومة بلا تمكين وبلا دولة عميقة وكوادر رافدة لعملها وإمكانيات مالية هائلة بين يديها وقوى تنفيذية مدنية وعسكرية وشرطية خاصة في الظرف السوري ستكون حكومة ضعيفة أو صورية ويصعب معه أن تكسب ثقة الشارع، فضلاً عن إمكانياتها من طرح حلول أو حماية الشعب وثروته.
ينبغي على وزير الاقتصاد والمالية في الحكومة المؤقتة لو بين يديه أدوات التمكين التأكد من صحة الأوراق المالية المتداولة، وضبط حجمها وأسعار التداول وتكون لديه الإمكانية للتدخل المالي والإداري، كي يتمكن من حماية الشعب الذي يسكن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
أعتقد أن الفرد في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وكردة فعل على إشاعة تزوير العملة السورية فضلاً عن قيمتها المتسارعة في الانهيار سيلجأ تلقائياً لليرة التركية بدل الليرة السورية في تلك المناطق وهذا أمر ميسر على اعتبار أن عدداً لا بأس به يقبض بالليرة التركية، كمثال “أكثر من خمسين ألف مقاتل في الجيش الوطني والمعلمين والقضاة والعاملين في الهيئات الصحية والإغاثية”.
إن عمليات الاستبدال التام للعملة تحتاج لتدخل المصرف المركزي التركي وفتح بنوك داخل مناطق النفوذ التركي مع موافقة الأطراف الفاعلة دولياً وتحديد “حدود مناطق النفوذ ضمن آليات مالية محددة وتدريجية”.