في تشرين 2018، وخلال إقرار المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي في حكومة النظام السوري الخطة الاقتصادية والاجتماعية لموازنة سوريا، وعد رئيس حكومة النظام السوري، عماد خميس، المواطنين أن يكون 2019 عام إعادة الحياة كما كانت قبل الحرب، وقال إن “الموازنة تركز على تأمين متطلبات عمل الدولة والتوسع بالإنتاج الزراعي والصناعي ودور القطاع الخاص”.
اعتبرت وكالة الأنباء الرسمية (سانا)، في 21 من تشرين الأول 2018، أن “مشروع الموازنة انطلق من التحسن التدريجي وحالة التعافي التي بدأت تظهر على الاقتصاد السوري مع عودة الكثير من الفعاليات الاقتصادية إلى الإنتاج”.
لكن الواقع الاقتصادي في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، والأزمات التي تعصف بها من أزمة المحروقات وارتفاع الأسعار، تكذب تصريحات خميس وتجعل مهمته مستحيلة وفاقدة للمعنى ولم يعد لتصريحاته “المكياجية” أي أثر إعلامي، بحسب ما قاله رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا، أسامة قاضي، في حديث إلى عنب بلدي.
أين أنفقت موازنة 2019؟
في ظل الواقع المعيشي للمواطنين تُطرح تساؤلات عن أين ذهبت وعود خميس، وأين أُنفقت أموال الموازنة العامة 2019؟
موازنة 2019، التي صادق عليها رئيس النظام، بشار الأسد، في 6 من كانون الأول 2018، بلغت قيمتها 3882 مليار ليرة سورية بزيادة قدرها 695 مليارًا عن موازنة العام الماضي، وخُصّص مبلغ 811 مليار ليرة سورية للدعم الاجتماعي، منها 361 مليارًا لدعم الدقيق التمويني و430 مليارًا لدعم المشتقات النفطية وعشرة مليارات لصندوق الإنتاج الزراعي، وعشرة مليارات للصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية.
لكن قاضي أوضح أن دعم القمح والمشتقات النفطية ودفع رواتب الموظفين فقط التهم موازنة 2019 لسوريا، وسيظهر عجز الموازنة قريبًا، قائلًا، “برفع حكومة النظام سعر استلام كيلو القمح من الفلاحين إلى 185 ليرة للكيلو (185 ألف ليرة للطن الواحد)، سيكلف شراء 2.5 مليون طن قمح (بحسب ما صرحت به الحكومة) مبلغ 462 مليار ليرة، إضافة إلى مبلغ 1766 مليارًا ثمن وقود، إذ إن هناك حاجة بحسب وزير النفط (علي غانم) إلى 8.8 مليون دولار يوميًا (بسعر صرف 550 ليرة سورية للدولار الواحد)، فضلًا عن كتلة رواتب مليون ونصف المليون موظف في القطاع العام، بمعنى أقل بمليون موظف من عام 2011، تبلغ ما لا يقل عن 1200 مليار ليرة سنويًا”.
وأكد قاضي، “نحن نتحدث عن الحاجة لما لا يقل عن ثلاثة آلاف مليار ليرة من أجل القمح والوقود والرواتب لوحدها، وهذا يلتهم تقريبا كل موارنة 2019، ولن تبقى مبالغ للإنفاق الاستثماري أو الصحة أو الإعمار أو الكهرباء أو الإعلام وبقية بنود الموازنة”.
وكانت حكومة النظام السوري خصصت، في 30 من نيسان الماضي، مبلغ 400 مليار ليرة سورية لشراء القمح من الفلاحين، في حين كانت قد خصصت في الموازنة العامة 361 مليار ليرة سورية، أما المشتقات النفطية فأكد وزير النفط، علي غانم، في مقابلة مع التلفزيون السوري، في 29 من نيسان الماضي، أن سوريا تحتاج يوميًا إلى 4.4 مليار ليرة يوميًا (8.8 مليون دولار يوميًا بسعر صرف 500 ليرة للدولار الواحد) أي ما يعادل مبلغ 1600 مليار ليرة سنويًا (2.9 مليار دولار سنويًا).
طرح سندات خزينة أم طباعة عملة
التهام قطاع القمح والمحروقات لموازنة سوريا دفع الحكومة إلى البحث عن حلول، فاجتمع المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي، في 16 من آذار الماضي، ووافق على إعادة ضبط الإنفاق الإداري، وتوفير نحو 100 مليار ليرة لدعم المؤسسات الاقتصادية الأكثر إنتاجية لمواجهة الصعوبات والتحديات في قطاع النفط والطاقة.
لكن هذه الوفورات، إن صحّت، تبدو ضئيلة، إذ إن مبلغ 100 مليار ليرة سورية هو مبلغ بسيط لا يستطيع دعم مؤسسات اقتصادية بشكل حقيقي، بحسب قاضي، الذي أكد أن أي حكومة يطرأ على موازنتها عجز تقوم بعرض سندات خزينة (سندات حكومة) لتستدين من الشعب وأحيانًا من الخارج وتدفع فوائد على هذه السندات إلى وقت استحقاقها.
وسندات الخزينة هي سندات مالية تطرحها أي حكومة تكون مصاريفها أكثر من إيراداتها، إما للبنوك المحلية أو المستثمرين أو للبنوك العالمية، بهدف الحصول على سيولة مالية لسد العجز مقابل دفع فائدة من قبل الحكومة للمستثمر، وتكون هذه السندات مقرونة بفترات زمنية إما عشرة أو 20 أو 30 عامًا.
لكن شرط نجاح هذا الحل هو التعامل مع حكومة تتمتع بمصداقية ولديها معدل تنمية اقتصادية واعد ما يمنح الثقة لمشتري السندات، كما يجب ألا يكون الاقتصاد عرضة لتضخم كبير، بحسب قاضي، الذي اعتبر أن التضخم الجامح والنمو الاقتصادي شبه المعدوم أو السلبي الموجود في سوريا ينفر أي مستثمر أو مدخر محلي يريد أن يشتري سندات خزينة يصدرها النظام السوري.
وأعلن المصرف المركزي السوري، في 4 من شباط الماضي، للمرة الأولى في تاريخ سوريا، عن طرحه شهادات إيداع بالليرة السورية بقيمة اسمية قدرها 100 مليون ليرة سورية وسعر فائدة 4.5%، بهدف إدارة السيولة المحلية في إطار تنفيذه السياسة النقدية، لكن إصدار الشهادات عمليًا أداة عديمة الجدوى، بسبب عدم استقرار الليرة وغياب الثقة في الأداء الحكومي، ضمن معدلات تضخمية كبيرة.
التضخم مستمر
عجز الموازنة ستكون له آثار اقتصادية وخاصة على المواطن، الذي ستلجأ الحكومة إليه لجباية المزيد من الضرائب المباشرة وغير المباشرة حتى تغطي بعضًا من العجز، بحسب قاضي.
لكن بعد اقتناع حكومة النظام أن ما جمعته لن يكفيها، وأن السوق لا يستجيب للسياسات النقديّة وأدواتها من أجل توظيف واستثمار النقد المكتنز للمدخرين في السوق المحلي، لن يبقى أمامها سوى طباعة عملة محلية لا يدعمها حجم كبير من سلع وخدمات محلية ولا نمو اقتصادي مطّرد، ما يؤدي إلى الاستمرار في حالة التضخم الجامح والنمو الضعيف أو السالب، الأمر الذي يزيد من معاناة السوريين.
وأشار قاضي إلى استحالة أن يعود الاقتصاد إلى ما كان عليه دون حل سياسي عادل يوقف هذا التشظي الديموغرافي والاجتماعي والاقتصادي.