تعيش مناطق سيطرة نظام الأسد أزمة اقتصاديَّة خانقة وصلت حدّ حرمان الشعب السوري من أبسط حقوق المعيشة الأساسية ومحاربته بها، ألا وهي مواد المحروقات وأهمها مادة الغاز، رغم امتلاكه مخزوناً كبيراً من النفط، كما سمح للمواليين له، لاسيّما ’’الفنانين‘‘ بالتبجح بهذه المعاناة عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
ونجد رأس النظام خلال خطابه الأخير في 17 فبراير/ شباط الفائت، يتسوَّل من معاناة شعبه، ويُبرر أزمة الغاز، مطالباً اللاجئين بالعودة للمساهمة في عملية إعادة الإعمار التي صرّح قبل عام أنّها ستكلف 400 مليار دولار على الأقل، وتستغرق من 10 إلى 15 عاماً.
’’حرية برس‘‘ التقى رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا الدكتور ’’أسامة قاضي‘‘، للوقوف على مجريات الأحداث حول أزمة النظام الاقتصادية من معظم المحاور، وكان الحوار التالي:
* ما هو السبب الرئيس في الأزمة الاقتصادية التي تعصف بمناطق نظام الأسد؟
** لم تغادر الأزمات الاقتصادية حياة السوريين على مدى الحقبات المتعاقبة للحكومات السورية معظمها، ’’زمن البعث‘‘، ولكن درجة قساوتها تختلف، والسوريون لاينسون زمن سيء الذكر رئيس الوزراء ’’عبد الرؤوف الكسم‘‘ الذي قال عنه وزير الدفاع في مذكراته: إنَّ وجهه كان شؤماً على الاقتصاد السوري، وفي عام 2005 كان حجم العاطلين عن العمل مليون عامل، ونسبة البطالة 20%، والأرقام الرسمية لعام 2004 تقول إنَّ 34% من الشعب السوري كان يعيش تحت خط الفقر، وفي عام 2007-2008 طال الجفاف المناطق الشرقية.
وقد صرحت الأمم المتحدة حينها أنَّ نحو 59 ألفاً من صغار المزارعين خسروا قطعانهم غالبيتها في حين خسر 47 ألف مزارع ما بين 50 و60% من ماشيتهم، وإنَّ موسم حصاد عام 2007-2008 افتقر بشدَّة إلى مياه الأمطار، ما أدى إلى تراجع متوسط إنتاج المحاصيل، وخسر الاقتصاد السوري 40% من محصول القمح، وانخفض إنتاج الشعير 90%، كما أن الأمم المتحدة حينها تبرعت بـ20 مليون دولار لهذه الأزمة، وعدد الذين باتوا تحت خط الفقر في عام 2011 يُقدَّر بحوالى 50% من الشعب السوري.
أمّا الأزمة الحالية، لاشكَّ أنَّها ’’الأسوأ‘‘ لأنَّ حكومة الأسد حُرمتْ من كثير من الموارد النفطية والزراعية، وبالتأكيد التجارية بعد خسارة معظم المعابر، وخسارة رأس المال البشري، وماتدره الحركة الاقتصادية من ضرائب، ومع تشديد الحصار على إيران وتعثر وصول بعض شحنات الغاز، وعدم استطاعة روسيا أن تساعد في تسييل الغاز الموجود في سبعة حقول غاز تحت سيطرة النظام وحلفائه منذ أكثر من سنتين، كل هذا وغيره من انعدام الموارد، والفساد المستشري، وسوء الإدارة لايستبعد معها أزمة اقتصادية خانقة.
* ما هو رأيك بالعروض التي قدّمها سكان المناطق المحررة إلى سكان مناطق النظام بالانتقال للعيش في مناطقهم؟
** ربما كان واقع الحياة في المناطق الواقعة تحت النفوذ التركي أفضل نسبيّاً، حيث أن هناك تسعة معابر في الشمال تأتي بما يحتاجه النازحون، لكن هنالك في الشمال السوري 1.7 مليون سوري نازح في المخيمات وضعهم مزر للغاية، عدا خروقات الهدن والاتفاقيات حيث تُقصف مناطق جنوبي وشرق إدلب وشمال غربي حماة، وإذا زاد عليها تغول ’’جبهة النصرة‘‘ (هيئة تحرير الشام) ومايمثلها مما يسمى ’’حكومة الانقاذ‘‘ التي اعتدت على ماتملكه الحكومة المؤقتة وعدت هذا فتحاً مبيناً ونصراً إلهيّاً، والوضع في إدلب سيء خاصةً بعد أن قطعت المؤسسات الدولية الإغاثية كل نشاط لها في مناطق سيطرة ’’حكومة الإنقاذ‘‘.
أعتقد أنَّ الأمور في الشمال السوري ما زالت غير مستقرة، وهي متفاوتة نسبيّاً في درجة نشاطها الاقتصادي، وسوية عيش أبنائها، ولن تتوقف عذابات السوريين إلا بحلِّ سياسي عادل في ظل حكومة مهنية، وحكم رشيد، وجيش وطني حقيقي، وفصل بين السلطات.
* ما هو سر خروج شخصيات سياسية وفنانين وانتقادهم حكومة الأسد في مشهد جديد على الشعب السوري وغريب، وما سر سكوت النظام عن النقد الذي يتعرض له؟
** كل ماذكر من شخصيات التزموا الخطوط الحمراء الأمنية وهي عدم المساس بـ’’قدسية الذات الحاكمة‘‘، وكلّ ماعدا ذلك تفاصيل، فما قيمة نقد وزير أو مدير أو رئيس وزراء في سوريا في الوضع الراهن، كانت صحيفة ’’الثورة وتشرين‘‘ المواليتين تنشران مقالات قبل الثورة تنتقد أداء الحكومات، وأحياناً تنتقد وزيراً بعينه، وسقف السماح بذلك هو حجم الغطاء الأمني لذلك الوزير أو المدير، ولكن الآن كل مدة يتم تغيير ’’الواجهات الوزارية‘‘، ولاتتمتع بأي حصانة ضد النقد، لأنَّ ’’القصر‘‘ يريد دائماً أكباش فداء للوضع الاقتصادي الخانق، وهنالك من يرتضي من الأشخاص بمنصب وزاري دون أن يعبأ بحجم النقد، وأحياناً التهم بالتقصير لقاء منصب وراتب وزير على الأقل مدة عام حتى يستمر بقبض راتب الوزير عقب إقالته.
* بعد ثمانية أعوام من الثورة في سوريا، كيف ترى وضع الاقتصادي السوري بشكل عام؟
** لم يعد هنالك في سوريا حكومة مركزية تسيطر على 14 محافظة، لذا فلا معنى لعبارة ’’الاقتصاد السوري‘‘، لأنَّ سوريا في ظلِّ مناطق النفوذ، ووجود ’’ميليشيات‘‘ أجنبية متناحرة على أرضها، عدا الفصائل العسكرية من كل الأطراف، بات اقتصادها عبارة عن ’’اقتصاد مناطق النفوذ‘‘ أو اقتصاد ’’المناطق والنواحي‘‘، على سبيل المثال لم تعد تدخل الخزينة السورية أي ضريبة من أي سوري في إدلب أو الرقة ودير الزور والريف السوري وغيرها كثير.
الوضع الاقتصادي الحالي في سوريا مقارنةً بما كانت عليه سيء للغاية، ولم يعد يُدار ولا حتى كاقتصاد ’’حرب‘‘، لأن اقتصاد الحرب يحتاج إلى إدارة مركزية تستطيع ضبط الموارد وهذا غير متوفر، كما أن السوريين فقدوا مئات المليارات من الدولارات بخسارتهم لنفطهم من 340 ألف برميل إلى أقل من 30 ألف برميل يوميّاً، وزراعتهم وتجارتهم أيضاً، ووصل التضخم إلى أرقام مخيفة تجاوزت أحياناً 400% منذ عام 2011، وخسرت العملة عشرة أضعاف قيمتها، وبات أكثر من 70% تحت خط الفقر، وبلغت البطالة حوالى 85%، والناس تعيش على الإعانات التي ترسل إليهم من أقربائهم.
* هل تعتقد أن أزمة النظام الاقتصادية مفتعلة بهدف كسب عطف دولي للنظام أم أن الأزمة فعلاً حقيقة؟
** الأزمة الاقتصادية حقيقية وخانقة، ولا يمكن إدارتها وانتشال الاقتصاد في ظلِّ فقدان حكومة الأسد سيطرتها على مفاصل الاقتصاد التي باتت في يد الإيرانيين والروس، وفي ظلّ تفشي الفساد أكثر مما كان عليه قبل الثورة، لإنَّ الأزمة تزداد سوءاً، والذي يعاني هو الشعب السوري المظلوم.
* ما هي الطرق التي يحتال نظام الأسد من خلالها على الأزمة اقتصادية ويستغل الناس، مثلاً شهادات الاستثمار الجديدة، وهل للحوالات المالية التي تأتي من الخارج للأهالي دوراً؟
** تحتاج حكومة الأسد إلى سيولة وبطبيعة الحال يُمكنها طرح سندات خزينة أو شهادات استثمار، وإنَّ اتباع سياسات نقديّة يُساعد في توظيف واستثمار النقد المكتنز للمدخرين في السوق المحليّة، وهذا بمثابة أدوات تقليديّة في أجواء مستقرّة، ولكنه مؤخراً قام بإصدار شهادات إيداع بالليرة السوريّة بقيمة اسميّة 100 مليون ليرة للشهادة وسعر فائدة 4.5%، ما يجعل هذه السندات عمليّاً أداة عديمة الجدوى، خاصةً في ظلّ عدم استقرار الليرة وغياب الثقة في الأداء الحكوميّ، ضمن معدّلات تضخم كبيرة وصلت رسميًّا إلى 36% (أكبر بكثير من معدل 4.5%)، وهي فعليّاً تجاوزت الـ400% منذ عام 2011.
أيّ في الحد الأدنى سيخسر المواطن أكثر من 30% من قيمة السند الفعلية بسبب التضخم، بطريقة أخرى، لو فرضنا أن حكومة النظام استطاعت استقطاب 10 مليارات ليرة، فذلك يعني استرجاع 20 مليون دولار فقط، وهذا المبلغ بسيط جداً لا يستطيع سدّ جزء يسير من الطلب المحليّ أو النفقات الحكوميّة، ولن يساعد في انخفاض سعر الليرة السوريّة مقابل الدولار، والعائدات التي يحولها السوريون إلى أهلهم في الداخل ربما تكون السبب الرئيس ليس فقط في رفع مستوى معيشة الأهالي في الداخل، بل أيضاً في إدخال عملة صعبة إلى المصارف السورية.
* ماذا عن عائدات النفط التي كان يحصل عليها من تنظيم ’’داعش‘‘ المسيطر على مناطق الآبار، وهل سيتغيَّر الوضع بعد سيطرة ميليشيا ’’قسد‘‘؟
** النظام فيما سرَّب من معلومات يُقايض تنظيم الدولة الإسلامية ’’داعش‘‘ على القمح والنفط لقاء تقديم الأمن وتنقلات لوجستية وتفاهمات عسكرية، وأعتقد الأمر مشابه بالنسبة إلى ميليشيا ’’قسد‘‘، وخاصةً أنَّ قيادة الميليشيا زارت دمشق أكثر من مرَّة، وأن النظام ما زالت مؤسساته بمافيها الأمنية موجودة في بعض المحافظات المتواجدة فيها ’’قسد‘‘.
روسيا أكبر مصدر للغاز في العالم وقادرة أن تحل مشكلة فقدان الغاز في مناطق النظام، برأيك لماذا لا تفعل ذلك؟
** أستغرب أنَّ الروس منذ 2015 لم يعملوا على إيجاد تقنية من أجل تسييل الغاز الموجود في سوريا، وهنالك سبعة حقول غاز تحت سيطرة نظام الأسد منذ أكثر من عامين، ورغم ذلك لم تستطع تسييل كمية منها لسد حاجة السوريين من الغاز المسال، بل اكتفت بإرسال ناقلات غاز عبر البحر، ومؤخراً احترقت ناقلتان في البحر، فإمَّا أنَّ الروس يُريدون بقاء النظام تحت رحمتهم ولايريدون خلق مصادر دائمة للطاقة له كي لايغدر بهم في صفقة مع الإيرانيين، أو أنهم قطعوا تلك الإمدادات ليضغطوا عليه.
وتمهيداً لاستبداله بعد أن تنفض عنه ماتبقى من حاضنة وتصل القلاقل إلى عرين النظام في اللاذقية ودمشق، وفي الوقت نفسه يوصلون رسالةً إلى الإيرانيين مفادها أنَّ سوريا تحت السيطرة الروسية حصراً، وقصف الاحتلال الاسرائيلي مواقع إيرانية في داخل سوريا من دون تشغيل مضادات إس 300 و400 أوضح دليل، بل هناك من يشكك أن الروس يسربون الإحداثيات الخاصة بتواجد الإيرانيين في المواقع السورية.
* هل الاتفاقيات الأخيرة بين نظام الأسد وإيران (11 اتفاقية اقتصادية) سببها ’’الأزمة‘‘، وهل ستلعب دوراً مهماً لمصلحة النظام بتجاوزها؟
** الإيرانيون وقعوا أكثر من ثلاثين اتفاقية -معلنة- خلال السنوات الماضية وهذه الاتفاقيات بمثابة استرداد الديون المستحقة على نظام الأسد لقاء حمايته من قبل ميليشيا ’’الحرس الثوري الإيراني‘‘، وأدواته في المنطقة، فهم من ساعده في الحرب، ومنطقيّاً أن يقطفوا الثمرة في السلم، وهذه أوراق ضغط سياسية للمقايضة على البقاء في سوريا، وهناك سباق محموم بين الروس والإيرانيين في توقيع الصفقات.
* هل من الممكن البدء بإعادة إعمار سوريا في ظلِّ عدم تحقيق إنجاز سياسي، وهل يمكن لإيران وروسيا والصين القيام بذلك من دون المجتمع الدولي وبقية الأطراف؟
** التاريخ يُخبرنا أنَّ إعمار ألمانيا بدأ بعد الانتهاء من ’’هتلر‘‘، لايوجد في الكون دولة بدأت الإعمار قبل انتهاء الحرب، والخروج بحلِّ سياسي، وفي الوضع السوري لدينا ثلاث مناطق نفوذ روسية وأمريكية وتركية، وهنالك إعمار جزئي كل في منطقة نفوذه بما فيهم نظام الأسد، ومن دون إطار قانوني لحل سياسي ناجز وإنهاء حالة الحرب الباردة جداً على الأرض السورية يبقى الحديث عن الإعمار مجرد استهلاك إعلامي.
* لم تستطع جماهير الثورة أن تسقط نظام الأسد عسكريّاً أو سياسيّاً، هل تعتقد أنه من الممكن أن يسقط النظام من تلقاء نفسه اقتصادياً وخصوصاً بعد إقرار مشروع سيزر (قيصر) وما مدى تأثير العقوبات الأوروبية على النظام؟
** العقوبات الاقتصادية شرط لازم لكنه غير كاف لإسقاط نظام استبدادي، ومزيد من العقوبات الاقتصادية على الشخصيات المحيطة بنظام الأسد لن تسقط النظام الذي لم يعد يعتمد في الغالب سوى على روسيا وإيران، وقد أبلغوه أكثر من مرة علناً أنه لولا وقوفهم إلى جانبه لسقط، وإقرار مشروع سيزر سيزيد الضغط عليه، وهي رسالة معلنة بأنَّ السياسة الأمريكية تقف مع الحل السياسي وأنَّها ستعاقب كلّ من ساعد نظام الأسد في الإعمار قبل الحل السياسي، لكن الشعب السوري انتظر ثمانية أعوام دعماً حقيقياً من العالم وحلاً سياسياً أكثر من انتظاره عقوبات تطيل عمر الأزمة التي تزيد عذاباتهم.
-
الدكتور أسامة قاضي: مستشار اقتصادي وإداري دولي مستقل، يعمل رئيساً لمجموعة عمل اقتصاد سوريا التي كانت الشريك الرئيس لمجموعة أصدقاء الشعب السوري المعني بإعادة اعمار سوريا، وترأس كافة الوفود الاقتصادية الخاصة بالثورة، وصاغ الخطاب الاقتصادي للثورة وأشرف على الخارطة الاقتصادية لسوريا الجديدة، وهي عبارة عن 14 تقرير اقتصادي معمَّق في عشر قطاعات، وكذلك أشرف على 17 تقرير بعنوان: ’’المشهد الاقتصادي السوري‘‘ وخمسة تقارير بعنوان: ’’الخارطة الزراعية لسوريا‘‘، كما رُشِّحَ لرئاسة أول حكومة مؤقتة في مارس 2013، لكنه اعتذر من أجل وحدة المعارضة.