يرى رئيس “مجموعة عمل اقتصاد سوريا”، الدكتور أسامة قاضي، في حوار مع “اقتصاد”، أن المزاج العربي قد تغير لصالح إعادة تعويم النظام السوري، معتبراً أن إعادة العلاقات مع النظام تعني الاعتراف عربياً بكل العقود التي وقّعها الأسد مع إيران وغيرها من الدول الحليفة له.
وفي حين وصف الاقتصادي قاضي، الدور العربي في مسألة إعادة الإعمار بـ”غير الواضح بعد”، رجح أن يكون إعمار سوريا بتمويل عربي وإشراف روسي وتنفيذ أوروبي.
وبالمقابل، ألمح قاضي إلى احتمال تطبيق سيناريو إعمار “ألمانيا الغربية” في سوريا، نظراً لوجود أكثر من دولة فاعلة في الخارطة السورية.
وإلى نص الحوار الكامل:
البعض اعتبر أن العام الجديد- وأنت منهم- سيشهد ساعة صفر إعادة الإعمار، وأكثر من ذلك رجحت بعض الصحف الغربية أن تشهد سوريا معدلات نمو عالية في هذا العام، وهنا نسأل عن المعطيات التي استندت إليها وسائل الإعلام هذه، وعن خفايا ما يدور دولياً حول هذا الملف؟
إن المزاج العربي والعالمي المُعلن قد تغير لصالح تعويم رأس النظام السوري، والذي ربما تجاوز مسارات جنيف وحتى أستانا باتجاه صفقة دولية قد ينتج عنها تقسيم جغرافي للخارطة السورية مع الحفاظ -إعلامياً-على مقولة “الحرص على سوريا موحدة”، المقولة التي ربما لا تكون إلا مجرد عبارة عن جزء من حملة إعلامية لصرف الأنظار عن تقاسم الجغرافيا السورية كمناطق نفوذ.
أهم مرحلة بعد انتهاء الصفقة هي تقاسم مهمات إعادة إعمار سوريا، وإعادة إحياء اقتصادها، والمعلوم أنه دون صفقة سياسية حقيقية تضمن الأمن لعودة النازحين واللاجئين السوريين إلى بيوتهم، ويكون هنالك استقرار لحد مقبول، فإن عملية الإعمار الشاملة ستبقى مجرد طموح يصعب تحقيقه.
هل لما يجري من حراك دبلوماسي عربي نحو الأسد علاقة بملف إعادة الإعمار، لا سيما وأن هناك أنباء تتردد عن خطة لإعادة تأهيل النظام، والنهوض باقتصاده؟
بغض النظر عن التسريبات الإعلامية وحقيقتها، لكن الصورة الكلية للدور العربي في إعادة الإعمار غير واضحة، لأن الغرض المعلن من إعادة تعويم النظام وإعادة فتح السفارات هو استعادة سوريا إلى الحظيرة العربية ومناصرته ضد تركيا وايران، لكن الجامعة العربية لم تكسب حافظ الأسد سابقاً إبان حرب الخليج ضد إيران، وكانت سوريا محتفظة بالمقعد في جامعة الدول العربية، وبشار الأسد الآن في موقف أضعف من أن يستطيع إخراج إيران من اللعبة.
المسألة الأخرى هي أن إعادة شرعنة النظام عربياً معناها الاعتراف بشرعية أكثر من عشرين عقداً وقّعها النظام “الشرعي” مع إيران بما فيها الكهرباء، وميناء وأراضٍ زراعية، وشركات اتصالات، وعقارات وغيرها، فكيف سيستطيع النظام “الشرعي” الانفكاك من العقود “الشرعية” الموقعة مع إيران؟، وكيف سيتمكن الأشقاء من الوقوف في وجه إيران في سوريا؟، خاصة أن إيران وروسيا حلفاء في أستانا أصلاً، والدخول العربي سيكون بغطاء روسي فكيف سيتخلى الحلفاء عن بعضهم؟، علماً أن روسيا لوحدها لديها عقوداً مفتوحة لمدة خمسين عاماً في الثروة المعدنية السورية وغيرها؟، وكيف سيكون الوجود العربي مع النظام عامل مناصرة في وجه تركيا، بينما روسيا -الحليف الرئيسي للنظام- في شهر عسل مع الأتراك خاصة بعد اقتراب مشروع خط الغاز 1200 كم من الانتهاء؟، فضلاً عن أن هنالك تصريحاً عربياً – وربما كجزء من الصراع العربي – العربي – مفاده أن وجود إيران شرعي في سوريا ولها مصالح حيوية في سوريا.
إن ما سبق يكشف عن ضبابية في تصور إعادة الإعمار ضمن التعقيد الجيوسياسي المصاحب لتجاذب إعلامي جلّه غير حقيقي، وجزء من حملات إعلامية يصعب ترجمتها واقعياً.
قبل مدة وجيزة كانت بعض الدول الغربية تربط تحريك ملف إعادة الإعمار بـ”التسوية السياسية”، بتقديركم هل من تغييرات في هذه المواقف، أم أن هذا الملف لا زال ورقة للدفع والجذب، وما هي الدلائل على ذلك؟
هنالك طلاق شبه بائن بين الأخلاق والسياسة، لأن المصالح المتغيرة تحكم السياسة ابتداء، بعيداً عن تلبية مطالب الشعوب بالحرية والعدالة، والأمم المتحدة وأوروبا والعالم أعلنت مراراً أنه لا إعادة إعمار دون تسوية سياسية، وهذا منطقي، ولكن بسبب طول الأزمة التي قاموا بتأخير استحقاقاتها هم أنفسهم، وبعد تغير المزاج الدولي والدخول العسكري الروسي، والدخول في حرب باردة جداً على الأرض السورية مع أمريكا، بدأت تتغير المعادلات، وبمجرد دخول الجيوش الرسمية الأجنبية على الأرض السورية خرج السوريون من المعادلة وباتت سوريا مجرد ورقة للمساومة الدولية تارة من أجل أوكرانيا والقرم، وتارة من أجل إزعاج تركيا أو لرفع المقاطعة الاقتصادية ضد روسيا أو لحسابات أخرى، لا ناقة للسوريين فيها ولا جمل.
أعتقد أن إثارة مسألة توقع معدلات نمو اقتصادي عال في عام 2019 في مجلة الايكونومست البريطانية، ومقالات تخص تعويم النظام في الصحافة الأمريكية، وكذلك التلويح بالانسحاب الأمريكي سيجعل روسيا اللاعب الرئيسي في الملف، كل هذا سيدفع بالغرب إلى إعادة التفكير في المسألة السورية، والالتفات للمصالح الاقتصادية بعد أن هدأت فوهات المدافع، والبدء بحوار اقتصادي جاد مع الأوصياء على سوريا وخاصة الروس من أجل إعمار سوريا بتمويل عربي وإشراف روسي وتنفيذ أوروبي.
النظام السوري أعلن أنه سيعطي الشركات الروسية والإيرانية أولوية لإعادة الإعمار، هل يستطيع ذلك؟
لا يستطيع النظام – على الأقل في الوقت المنظور- التملص من اتفاقيات اقتصادية كثيرة جداً، وقّعها على مدى ثماني سنوات وخاصة بعد أن أعانه الحلفاء على النصر، ولا أعتقد أنه عسكرياً وأمنياً يستطيع الاستغناء عن حلفائه، فضلاً عن أن تلك العقود هي بمثابة استرداد ديون وضعت على كاهل السوريين و”ممثلهم” النظام السوري الذي يسعى العالم لتعويمه و”شرعنته” عربياً، علماً أن مقعده في الأمم المتحدة ظل موجوداً ومعترفاً بشرعيته دولياً، والذي كان سبباً في وصول 90-95 بالمائة من الإغاثات الأممية للنظام “الشرعي” دولياً، وستتعزز شرعيته مع عودته للجامعة العربية التي جرى التمهيد لها إعلامياً وسياسياً بانتظار التشطيبات السياسية الأخيرة لإخراج سيناريو مقبول إعلامياً، وبانتظار صفقة لإرضاء النظام ممن ناصبوه العداء على مدى 8 سنوات برعاية مشتركة إيرانية وروسية وتركية، كلٌّ حسب منظومة حلفائه.
ما يجري على الأرض السورية اليوم من محاولات لإعادة الإعمار يعطي انطباعاً بأن كل طرف دولي يعمر منطقة نفوذه، من روسيا وإيران في مناطق النظام، إلى تركيا في الشمال السوري، والولايات المتحدة في الشمال الشرقي، ما دلالات ذلك، وهل نحن أمام واقع تقسيمي بات سارياً على الأرض؟
واقع الأمر أن هنالك إعادة إعمار جزئي لمناطق النفوذ سواء في مناطق درع الفرات أو في مناطق السيطرة الأمريكية أو في مناطق السيطرة الروسية ولكل أدواته التنفيذية، فنحن الآن أمام ثلاثة مناطق نفوذ حقيقية.
لا يمكن أن يكون هنالك إعمار حقيقي حتى يتم الاعتراف بشرعية الوصاية وحدودها الجغرافية ضمن صفقة دولية، وإلى أن يتم ذلك ستبقى هنالك خطوات خجولة لإعادة إعمار مناطق النفوذ.
المطلوب الحقيقي هو أن تكون هنالك خطة شاملة لإعادة الإعمار لكل سوريا الموحدة حتى يكون هنالك تناغم وتكامل في إعادة إعمار البنية التحتية السورية، التي يغذي بعضها بعضاً بالماء والكهرباء والغاز والنفط والزراعة والتجارة والصناعة، ولكن في حال تم الاتفاق على سيناريو “ألمانيا الغربية” وهي عبارة عن ثلاثة مناطق نفوذ أمريكة وفرنسية وبريطانية عقب الحرب العالمية الثانية فإن الحدود حينها ستكون أكثر وضوحاً من أجل خطة لإعمار منطقتي النفوذ التركي-الأمريكي بشكل منفصل عن باقي سوريا، وكذلك سيكون هنالك في المقلب الآخر سيناريو “جمهورية الشيشان” حيث تكون المنطقة المسيطر عليها روسياً أشبه بجمهورية الشيشان عقب إتباع سياسة الأرض المحروقة في غروزني 1995، وعندها ستقوم روسيا مع حلفائها بإعمار المنطقة التي تخصهم من سوريا، ويدار اقتصادها السياسي على الطريقة الروسية، عقب تعيين “أحمد قديروف – سوريا” القادم.
للأسف، هنالك واقع ضبابي في ظل انعدام رؤية استراتيجية خارجية خاصة لـ “امبراطور العالم” في البيت الأبيض المنشغل في محاكمات وإقالات واستقالات وفضائح وحروب تجارية، ومهاترات إعلامية، وإغلاق للحكومة وبناء جدار مع المكسيك وغيرها.
وكل ذلك، واقع غير مبشر بإمكانية تحقيق سيناريو إعادة إعمار سوريا موحدة، تحت حكم رشيد يحكم المحافظات السورية الأربعة عشر، في ظل أجواء آمنة وسيادة العدل، وشعب يتمتع بحريته ونظام يحترم حقوق الإنسان السوري، الأمر الذي بات حلماً يصعب تحقيقه ربما حتى الانتخابات الأمريكية المقبلة عام 2020.
حاوره: مصطفى محمد – خاص – اقتصاد