ستكون للحرب في سورية تداعيات طويلة الأمد، على البيئة والموارد الطبيعية، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية. وأي حديث عن تنمية مستدامة في سورية في الوقت الحالي هو غير منطقي؛ حيث يبدو من الغرابة الكتابة عن التنمية والبيئة، في ظل استمرار الحرب ووجود أولويات حول التعليم والصحة والسكن وتفشي الفقر والبطالة. ومع ذلك، تبقى مسألة التنمية والبيئة موضوعًا مهمًا لمستقبل سورية، ومن دون إعطاء اعتبار للأذى البيئي؛ سيواجه السوريون تهديدًا إضافيًا. ليس من منظور صحي وحسب، بل من حيث الفرص الاقتصادية – المجتمعية أيضًا.
الحديث عن التنمية والبئية يعني أننا نتحدث عن التنمية المستدامة، وقد عرّف تقرير التنمية المستدامة بأنها “التنمية التي تستجيب لحاجيات الحاضر دون أن تُعرِّض للخطر قدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها”. ومن المفروض أن تسعى التنمية المستدامة إلى التوفيق بين الأبعاد الثلاثة: الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وقد وضع قادة العالم، في قمة أممية تاريخية في أيلول/ سبتمبر 2015، سبعة عشر هدفًا للتنمية المستدامة، بدأت بالقضاء على الفقر، وانتهت بعقد الشراكات لتحقيق الأهداف، مارّة بقضايا البيئة والتعليم ونمو الاقتصاد والمناخ والطاقة النظيفة، وغير ذلك من القضايا التي تطمح كل الشعوب إلى حل مشكلاتها. وتحتل البيئة مكانة مهمة ضمن الأهداف السبعة عشر للتنمية المستدامة، ولا يمكن أن تحرز الدول تقدمًا في موضوع البيئة، ما لم يكن للجهود المجتمعية دور فاعل فيها، وإن أي خلل في نظام البيئة يعود بالضرر على الإنسان نفسه، وعلى تحقيق حقوقه الأساسية في الحياة الكريمة.
تحدثنا في مقالات سابقة[1] عن البعدين الاقتصادي والاجتماعي، وفي هذا المقال نركز على البعد البيئي. ويتفق العلماء[2] في الوقت الحاضر، على أن مفهوم البيئة يشمل جميع الظروف والعوامل الخارجية التي تعيش فيها الكائنات الحية، وتؤثر في العمليات التي تقوم بها. فالبيئة بالنسبة إلى الإنسان هي “الإطار الذي يعيش فيه، والذي يحتوي على التربة والماء والهواء، وما يتضمنه كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة من مكونات جمادية، وكائنات تنبض بالحياة. وما يسود هذا الإطار من مظاهر شتى، من طقس ومناخ ورياح وأمطار وجاذبية ومغناطيسية.. الخ، ومن علاقات متبادلة بين هذه العناصر”.
لطالما كانت البيئة ضحيةً للحروب والنزاعات المسلّحة. وتحصى خسائر الحروب بعدد القتلى والجرحى، وبما تمّ تدميره من مدن ووسائل للحياة، فيما تبقى البيئة غالبًا ضحية صامتة ومنسيّة، على الرغم من كونها ضحية أساسيّة؛ حيث تدمّر الحروب الحقول والغابات ومصادر المياه، كما تنشر السموم وتلوّث الهواء والتربة، وتفتك بالثروات الحيوانيّة والنباتيّة، وتعتدي على مصادر الطبيعة[3].
ووفق برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) UNEP، ارتبط قرابة نصف الحروب، في العقود الستة الماضية، بالإساءة إلى الموارد الطبيعيّة، ومن ذلك سوء استغلالها أو التنازع عليه. وفي سورية، يؤكد فيم زفيننبيرغ[4] -وهو رئيس مشروع نزع التسلّح لأسباب إنسانية- أنّ “الظروف البيئية المتدهورة نتيجة التغيير المناخي لعبت دورًا في مضاعفة التهديد لاندلاع الصراع: الجفاف أدّى إلى مشكلات زراعية، سرّعت ازدياد البطالة، ما زاد الحنق على ارتفاع الأسعار والتوترات بين مختلف الجماعات، حول الفرص الاقتصادية – المجتمعية. ومن المتوقع أن تكون البيئة قد أدّت دورًا في اشتعال الثورة”.
الحرب في سورية أثرت سلبًا في البيئة، وأحدثت خللًا في جميع الظروف المحيطة بالأنواع الحية. ولم تسلم البيئة الطبيعية والحضارية من أعمال العنف المسلح، خلال السنوات الأخيرة. سبع سنين مرت على سورية، أثّرت تأثيرًا فظيعًا في الوسط البيئي الحيوي، وهددت الحياة البرية كما البحرية المتميزة بغناها. دمّرت الموائل الطبيعية، أُحرقت الغابات ونُهبت المحميات وتآكلت الأتربة، تدهورت نوعية المياه وتلوث الهواء. كما أن الكميات الهائلة من النفايات والبقايا، التي ستتركها الحرب، سيكون لها دور أساسي في تدمير الوسط البيئي، فإضافة إلى النفايات الصلبة من بقايا القذائف وفوارغ الطلقات، وبقايا الصواريخ، المدافع، الطائرات والدبابات، وملايين الأطنان من الحديد والنحاس والألمنيوم والنفايات السائلة والغازية التي اختلطت بالتراب والماء والهواء، ثمّة نفايات أخرى ناتجة عن سرقة وتفجير معامل الغاز السائل ومحطات الوقود، وتلك التي نتجت عن حرق معامل الأدوية، والتي ستدمر الموارد الطبيعية والبيئية.
وفي حين يعتمد السوريون على الزراعة، كمورد لكسب عيشهم، تعرض الإنتاج الزراعي في البلاد لضرر بالغ لأسباب عدة، من بينها انتشار الألغام والذخائر غير المنفجرة في الحقول، ونزوح المزارعين عن أراضيهم، وسرقة وحرق صوامع الغلال ومخازن المحاصيل، وندرة الأسمدة والبذور، ومحدودية مصادر الطاقة والمياه، وغياب الدعم الحكومي. كما عانى الإنتاج الحيواني كثيرًا من ظروف قاسية مشابهة، كان من نتائجها خسارة ثلاثة أرباع قطعان المواشي من بقر وخراف وماعز وجواميس.
أصدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) تقريرًا، حول القضايا البيئية في المناطق التي استردها (داعش). وكان فريق من شعبة ما بعد النزاعات في (يونيب) أجرى مسحًا ميدانيًا ركز على التلوث الناتج من إشعال النيران في آبار النفط، وإحراق المعامل، إضافة إلى تسرب المركبات العضوية الثابتة المستخدمة، كعوازل ومواد تبريد في منشآت الطاقة الكهربائية. كما تعرض التقرير للتحديات البيئية التي تفرضها كميات الأنقاض والنفايات الهائلة، ومن ضمنها الأسبستوس الذي لوحظ في أكثر من موقع.
وقد نشرت (باكس)[5]، دراسة تحليل واسع أولي، حول الأثر البيئي والصحي العام للحرب، وذكر التقرير أربع قضايا رئيسة ناتجة من النزاع، تتركز على استهداف وتدمير المنشآت الصناعية والبنى التحتية المفصلية التي توّلد بؤرًا ملوّثة؛ نتيجة الكميات الضخمة من المواد الخطرة والسامة الموجودة في هذه المواقع، والأضرار في الأحياء السكنية والتعرّض للردم الخطر والملايين من أطنان الركام، والتلوّث الناجم عن المواد العسكرية والأسلحة، وانهيار أي برامج لحماية البيئة.
الموقف الدولي
يهدف القانون الدولي الإنساني إلى حماية السكان المدنيين خلال النزاعات المسلحة، وضمان بقائهم على قيد الحياة. ومن ثم، يسعى إلى حماية البيئة الطبيعية التي من دونها تكون الحياة البشرية مستحيلة. وقد اعتمد المجتمع الدولي عام 1977 اتفاقية، بشأن حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأي أغراض عدائية أخرى. وغالبًا ما يشار إلى هذه الاتفاقية بمعاهدة (التغيير البيئي). وتشمل التقنيات المنصوص عليها في الاتفاقية كل أسلوب يُستخدَم لإحداث تغيير “عن طريق التحكم عن قصد بالعمليات الطبيعية أو ديناميات الأرض أو تركيبها أو بنيتها”. كما أعلنت الجمعية العامة، بموجب قراراها A/RES/56/4 المؤرخ 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2001، يوم 6 تشرين الثاني من كل عام، بوصفه اليوم الدولي لمنع استخدام البيئة في الحروب والصراعات العسكرية.
ولكن -للأسف- لم تهتم الأمم المتحدة للبيئة في سورية، ولم تحاول القيام بأي عمل لحمايتها وحماية المدنيين ومستقبل الأجيال القادمة، على الرغم من أن تدمير البيئة وتلوثها لا يؤثر في سورية فحسب، بل في كافة المنطقة والعالم.
كيف سنعالج هذا الموضوع المهم من أجل مستقبل الجيل القادم في سورية، وهل هناك طرق ممكنة وقابلة للتطبيق في ظل الحرب تجعلنا نتكلم بواقعية عن التنمية المستدامة؟
تربية من أجل التنمية المستدامة
تعتمد التنمية المستدامة على بناء القدرات البشرية وتفتّحها، ويكون الإنسان هو أداة التنمية وغايتها. وعلى ذلك؛ تبرز أهمية “الاستثمار في التعليم بغية تحقيق التنمية، والقضاء على الفقر، وتحقيق الإنصاف والشمولية. وبحسب هذه الرؤيا، فإن هدف التنمية ليس زيادة الإنتاج فحسب، بل تمكين الناس من توسيع نطاق خياراتهم، ليفعلوا مزيدًا من الأشياء، وليعيشوا حياةً أطول وأفضل، وليتجنبوا الأمراض القابلة للعلاج، وليملكوا المفاتيح لمخزون العالم من المعرفة.
يمكن إدماج موضوع التنمية والبيئة في المناهج التربوية؛ لتمكين الطلاب من المشاركة الفاعلة في تخطيط عملية التنمية المستدامة وإدارتها، من خلال إكسابهم المعارف والقيم والاتجاهات والمهارات اللازمة.
ينبغي للتعليم من أجل التنمية المستدامة والحقوق أن يواصل إبراز أهمية معالجة قضايا الموارد الطبيعية: (المياه والطاقة والزراعة والتنوع البيولوجي). إن الاعتراف بالرابط ما بين حماية البيئة والموارد الطبيعية ومصير الفقراء، يعني أن هذا الموضوع يجب أن يشكل أولوية في الجهد الوطني والدولي للتصدي لمسألة الحد من الفقر. وهو الأمر الذي سوف يمكن المتعلمين من تبني أساليب جديدة، في ما يتعلق بصون الموارد الطبيعية الضرورية للتنمية البشرية، بل لبقاء الإنسان.
التنمية المستدامة الموجهة بالحقوق
علينا إدماج المعايير الحقوقية في الأنشطة التنموية لمنظمات المجتمع الأهلي أو المدني الذي يضمن التخطيط لتنمية أساسها مبدأ “الحق” لا مبدأ “الحاجة”. ويُمكّن نهج التنمية القائم على حقوق الإنسان، من العمل على مبدأ الحق في التنمية الذي ركز على حق الشعوب في ممارسة السيادة التامة والكاملة على جميع ثرواتها ومواردها الطبيعية، والحفاظ على المناخ والبيئة للأجيال القادمة، من التركيز على حقوق المعرضين للتضرر والمهمشين بالفعل بسبب الفقر والتمييز. ويمكن إدماج مواضيع التنمية والبيئة في المشاريع التنموية التي تنفذها المنظمات، باعتبارها أحد آليات العمل نحو مستقبل سورية.
الاهتمام بالتنمية الريفية
حدثت بعض التطورات المشجعة، منذ انعقاد مؤتمر القمة في ريو، بظهور بعض المناهج والسياسات الجديدة القيمة، كمحصلة للتركيز على الاستدامة. فالكثير من المزارعين والعناصر الأخرى الفاعلة في الريف، عثروا على حلول محلية لتحديات الإنتاج المستدام وحماية البيئة، وتحقيق فوائد ملموسة للغابات والحياة البرية والمياه والتربة، والحد من الآثار السلبية على الزراعة مع المحافظة على الإنتاج أو زيادته. وكان للتركيز على الاستدامة فوائده البيئية والاجتماعية، في بعض المجالات مثل التخطيط لموارد الأرض، وتعليم الزراعة، والمكافحة المتكاملة للآفات. من الضروري ربط النشاط التعليمي بالحاجات النوعية في المناطق الريفية إلى المهارات والقدرات اللازمة للاستفادة من الفرص الاقتصادية، وتحسين الأحوال المعيشية والارتقاء بنوعية الحياة.
التعاون الدولي
من الضروري العمل مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP يونيب) لتشجيع قيام شراكات لرعاية البيئة وتوجيه الإيرادات التي تشتد الحاجة إليها نحو الإنعاش الاقتصادي والمساهمة في التنمية. وتعزيز الجهود الوطنية والدولية، لضمان الأمن البيئي في الحاضر والمستقبل.
بما أنّ سورية ستتصارع مع العديد من الأولويات الإنسانية والاقتصادية – المجتمعية؛ فمن الضروري تحديد أكثر المخاطر الصحية البيئية إلحاحًا، وإن لم يتم التعامل مع المخاطر البيئية بشكل سريع وفعال؛ فإنها ستؤثر في الجيل القادم الذي سيضطر إلى التعامل مع الإرث السام للحرب، بل قد يؤدي ذلك إلى تجدّد العنف حول الوصول إلى الموارد الطبيعية الشحيحة.
لقد أكدت الأمم المتحدة أهمية الحفاظ على البيئة؛ إذ مزّقت الحروب والنزاعات المسلحة نسيج التنمية المستدامة، وقالت: “لا يمكن أن يكون هناك سلام، إذا أتلِفَت أو دُمّرَت قاعدة الموارد التي يعتمد عليها الناس في الحصول على قوتهم… ونحن نشدّد على الأهمية الحاسمة لحماية البيئة، في أوقات النزاعات المسلحة، واستعادة الحوكمة الرشيدة للموارد الطبيعيّة، خلال مرحلة إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب”.
[1] شذى ظافر الجندي، شبكة جيرون الإعلامية، اقتصاد الحرب وانتعاش تجارة الحرب والفساد، نوفمبر 2017
[2] مفهوم البيئة، http://iid-alraid.com/Abwab/Ecology/Eco1.php
[3] المقدادي كاظم، البيئة ضحية منسية في النزاعات المسلحة، الحياة، 2016
[4] فيم زفيننبيرغ، الثمن البشري لآثار الحرب البيئية، حكاية ما انحكت.