تطورات جنيف – د. أسامة قاضي .
تتوضع محافظة ريف دمشق على مساحة تزيد عن 1.8/مليون هكتار، فيها 212 ألف هكتار أراضي قابلة للزراعة وفيها 1.3 مليون هكتار مروج ومراعي، وهيدروجيولوجياً تقع ضمن حوضي بردى والأعوج، فهي تمتلك ثروة زراعية لايستهان بها، وكان انتاجها يصل إلى 50 ألف طن بندورة و أكثر من سبعة آلاف طن باذنجان، ونفس الكمية من الكوسا، و2000 طن فليفلة، و 64 ألف طن قمح، و10 آلاف طن شعير، و13 ألف طن فول أخضر، و 10 آلاف طن بازلاء، و 41 ألف طن زيتون، و 40 ألف طن عنب، و 38 ألف طن مشمش و 92 ألف طن تفاح، و43 ألف طن كرز، أما الآن ومع كم القصف الهائل على مدار سنوات فقد أشبعت التربة بالمواد الكيماوية القاتلة التي ستؤثر على خصوبة التربة وانتاجيتها.
إن تلك المراعي الخضراء تشكل مكانا مميزا للثروة الحيوانية التي تعيش في ريف دمشق والغوطة خاصة، فقد كان هنالك قبل عام 2011 مثلا: 229 ألف رأس بقر، وأكثر من مليوني رأس غنم، وحوالي 271 ألف رأس ماعز، لم يبق ربعها الآن للأسف.
ضمن هذه الأرض الخيّرة تقع الغوطة الشرقية والتي وصل مستوى معيشة سكانها إلى أخفض مستويات المعيشة في سوريا وربما في التاريخ بسبب حصار النظام لأراضيها، حيث وصل التضخم أكثر من 3000 بالمائة، بسبب صعوبة إدخال الغذاء والدواء والحصار الخانق وانقطعت كل سبل العيش فيها فضلا عن القصف الممنهج لها.
لم يبق سوى خمسة أفران عاملة في كفر بطنة لاتقوى على تغطية حاجة أهلها من الخبز البالغة 30 ألف ربطة يوميا، وفي عربين لم يبق ولافرن عامل، وفي دوما فقط خمسة أفران لتغطية احتياجات الخبز اليومية البالغة 28 ألف ربطة، بينما في النشابية بقي فرن واحد يصعب عليه تلبية احتياجات السكان البالغة حوالي 3700 ربطة يوميا ، ونفس الصعوبة تعاني منها الأفران الثلاثة الباقية في حرستا لتغطي احتياجات السكان البالغة 9300 ربطة يومياً.
إن معاناة أهل الغوطة الشرقية لم تنته مع الحصار والقصف ولكن تأزمت أكثر مع إغلاق النظام لطريق مخيم الوافدين في 25 أغسطس 2017 حيث ارتفعت بسببه الأسعار – المرتفعة أصلاً – أكثر من أربعة أضعاف، فسعر كيلو السكر ارتفع من 2450 إلى 11000 ليرة سورية (بينما سعره في دمشق 350 ليرة سورية) ، والرز من 1378 إلى 5000 ليرة (بينما سعره في دمشق 550 ليرة سورية) ، والبرغل من 1078 إلى 3500 (بينما سعره في دمشق 300 ليرة سورية) ، وأما زيت الزيتون فلقد ارتفع من 3500 إلى 11000 ليرة سورية (بينما سعره في دمشق 2350 ليرة سورية) ، الأمر الذي بات معه العيش في الغوطة الشرقية جحيماً حقيقياً أمام انعدام فرص العمل ومنع دخول الإغاثات ولاحتى عن طريق الأمم المتحدة، اللهم إلا عن طريق تجار الحروب عبر فساد الحواجز التابعة للنظام.
إن صور الجوع القاتل داخل الغوطة الشرقية يعكس ضعف توفر الكم الكافي من السلل الغذائية منذ سنوات، حيث يقدر احتياجها بحوالي 77 ألف سلة غذائية شهرياً، والضغوط الاقتصادية لاتقتصر فقط على الحرمان من الغذاء بل زاد عليها تكاليف السكن الذي يشكل ضغطاً قاسياً على القوة الشرائية للسكان حيث يعيش 32،739 نازحا داخليا في بيوت مستأجرة بمعدل إيجار شهري شهري قدره 10آلاف ليرة سورية، أي ما يعادل 21 دولاراً مما يشكل عبئا على الأسر النازحة التي تفتقر إلى أي مصدر للدخل. لم تستطع المنظمات الإغاثية ولا حتى الأمم المتحدة توفير الحد الأدنى من البطانيات والحرامات حيث إجمالي الحاجة هو 230،945 مرتبة، و384،908 بطانية.
لا تتوفر مواد التسخين في منطقة الغوطة الشرقية، ويدخل التجار كميات صغيرة من الوقود حيث بلغ سعر لتر واحد من زيت الديزل حوالي 3000 ليرة سورية، (أي ما يعادل 6.2 $)، ومايزيد الأمر سوءا أنه لايتوفر إلا أقل من عشرة بالمائة من احتياجات سكان الغوطة الشرقية من الديزل، فسكان كفربطنى تحتاج 4.5 مليون ليتر ديزل، وسكان دوما يحتاجوا 4.2 مليون ليتر، وكذلك أهل حرستا يحتاجوا 1.3 مليون ليتر لحرستا، و820 ألف ليتر لعربين، و 562 ألف ليتر لسكان النشابية.
أعتقد أن هذا الحصار الخانق على أهل الغوطة الشرقية لم يتكرر في التاريخ المعاصر إطلاقاً، حيث لم يكتفِ النظام بتهجير حوالي مليوني شخص من سكان ريف دمشق، وقصفها بكل أنواع الأسلحة بما فيها الكيميائية، بل عاقب ماتبقى منهم البالغ عددهم تقريباً 400 ألف من سكان الغوطة الذين لم يغادروا أرضهم، وذلك بحرمانهم من 11.5 مليون لتر ديزل يحتاجونه، وتجويعهم، وقصف مستشفياتهم، بطريقة مفزعة.
كل ماسبق من تهجير وتدمير يحدث رغم توقيع الغوطة الشرقية في منتصف عام 2017 على وثيقة “خفض التصعيد” بحضور الدول الضامنة روسيا وايران وتركيا!
هذا الحصار الجائر يعد بيئة مناسبة لظهور تجار الحروب ومنهم ماذكرته مجلة الايكونومست عن المدعو محيي الدين المنفوش -الملقب ب “ملِك الجُبنة”- الذي كان مسؤولا عن إدخال كل الإغاثات للغوطة الشرقية مقابل أتاوات خيالية، وبات هذا الرجل الذي لم يكن يملك سوى 20 بقرة، إلى تاجر لديه 1000 بقرة، ومعمل صغير من الجبنة، حيث أجرى السيد منفوش اتفاقا مع النظام، وبدأ في جلب الحليب الرخيص من أراضي الغوطة الشرقية إلى دمشق التي يسيطرعليها النظام، حيث كان بإمكانه بيعها بأسعار مضاعفة مقابل حصول النظام على حصته، وقد استولى المنفوش على أفضل الأبقار وآلات الألبان في المنطقة من المزارعين، ورجال الأعمال الذين عرقل الحصار سبل معيشتهم. ومع تطور الأعمال التجارية، والشاحنات التي غادرت الغوطة بالحليب والجبن تعود محملة بالشعير والقمح الذي كان يحتاجه لإطعام القطيع وتشغيل المخابز التي اشتراها.
وبما أنه التاجر الوحيد سمح بإحضار البضائع من وإلى أكبر المناطق المحاصرة في سوريا، فقد تمكن منفوش من التحكم في الأسعار عندما بلغت ذروتها في شتاء عام 2013، حيث شدد النظام الحصار بعد مقتل 1400 شخص في هجوم غاز السارين، كان السيد منفوش يتقاضى 19 دولارا لكيلو من السكر (في دمشق بنفس التكلفة أقل من دولار واحد)، أصبح الحاجز الذي نقل منه السيد منفوش بضائعه يعرف باسم “حاجز المليون” ويعتقد سكان الغوطة الشرقية أنه هذا الحاجز يُدرّ 5000 $ في الساعة من الرشاوى.
كما عززت المساعدات الخارجية أرباح السيد منفوش-نقلا عن الايكونومست- واضطرت منظمات تمويل المخابز والمجالس المحلية إلى الاعتماد عليه لتحويل العملة الصعبة إلى الغوطة الشرقية مستفيداً من أسعار الصرف المختلفة، ولدى المنفوش مليشيات خاصة قوامها نحو 500 رجل وقوة عاملة قوامها حوالي 1500 شخص يتلقون ما يعادل 250 دولارا في الشهر.
مؤخراً وقبيل القصف غير المسبوق على الغوطة الشرقية قام النظام بتهديد السيد المنفوش الذي كان يتحكم تجارياً بالمعبر الوحيد، وقام النظام في 19 فبراير 2018 بقصف مخابز التاجر المنفوش ومعمل الألبان والأجبان الخاص به إضافة لمستودعاته، كما طال القصف أغلب الأفران العامة والخاصة في حمورية وسقبا وكفربطنا ودوما وتعطلت البقية عن العمل ولم يقتصر القصف على المستودعات الخاصة بالتاجر، بل استهدف مستودعات تابعة للجمعيات الإغاثية والمنظمات الإنسانية في المنطقة، وكان المنفوش-طبقا لصحيفة عنب بلدي- قد عقد صفقة مع النظام بلغت قيمتها 20 مليون دولار، تقضي بإدخال مواد غذائية للمنطقة مقابل أتاوة مفروضة تدفع للنظام قيمتها ألفا ليرة سورية على كل كيلو غرام (الدولار بـ 470 ليرة).
يقضي ماتبقى من سكان الغوطة الشرقية محنتهم مابين “ملِك الجبنة” و”ملَك الموت” الذي يحوم فوق سماء أهل الغوطة الشرقية، وبقية المحافظات السورية متجاوزين كل قرارات الأمم المتحدة والاتفاقات الدولية بكل صفاقة على مرأى ومسمع المجتمع الدولي و “ضامني” اتفاقات آستانا.
مصادر:
* “Dairy godfathers, Syria’s new war millionaires”, The Economist, Jun 1st 2017.
* “The Siege and Death of Eastern Ghota”; ACU; DEC 2017- Situation Report.
*عنب بلدي، حصار داخل حصار: حرب اقتصادية تسابق هجوم الغوطة الشرقية، الثلاثاء 27 فبراير 2018.
* الخارطة الاستثمارية الزراعية في الجمهورية العربية السورية، وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي.، مديرية الاقتصادي الزراعي، قسم الاستثمار.