اقتصاد – مال وأعمال سوريين .
أصدرت “مجموعة عمل اقتصاد سوريا”، تقريراً اقتصادياً جديداً من إعداد الخبير الزراعي والأكاديمي، الدكتور عبد العزيز ديوب، بعنوان: “مدخل إلى الخارطة الزراعية السورية والتنمية المستدامة”.
وفي التقرير، أوضح الخبير ديوب أن أهمية الخارطة الزراعية تتأتى من خلال الحاجة الملحّة للانتقال بالزراعة من شكلها النمطي إلى الحداثي، حيث تُعتمد الطرق الحديثة في عملية الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، مما يؤدي للانتقال إلى سياسة التكثيف الزراعي، والذي يهدف إلى تحقيق أكبر كمية ممكنة من الإنتاج من أصغر وحدة مساحة زراعية، وأيضاً بالنسبة للإنتاج الحيواني حيث يتم الحصول على أكبر كمية من المنتجات الحيوانية من الألبان والحوم وغيرها بشكل يتناسب مع المعايير المعتمدة.
وقد جاء التقرير في 27 صفحة، استُعرضت فيها الزراعات الاستراتيجية السورية وأنواع الترب السورية. وركز التقرير على الزراعات الاستراتيجية وخاصة القمح والشعير، حيث تعتبر سوريا من الدول المنتجة للقمح بكميات لابأس بها إذ تفيض عن الاستهلاك المحلي بمعدل الضعف تقريباً. هذا وبلغت المساحة المزروعة بالقمح 1,680 ألف هكتار خلال السنوات العشرين الماضية (1995-2015)، وقد تراوح الإنتاج خلالها ما بين 4- 5 مليون طن سنوياً، علماً أن المساحة المزروعة ترقى لتحقيق إنتاجية مضاعفة فيما لو تم الانتقال لسياسة “التكثيف الزراعي”، والتي تتضمن الحصول على أعلى إنتاجية من أصغر وحدة مساحية.
وتاريخياً، اشتُهرت سوريا الكبرى باضطلاعها بتزويد الرومان بالقمح والتي بلغ عدد سكانها آنذاك حوالي الـ 50 مليون، وتجدر الإشارة إلى أن سوريا الحالية تحتل مكانة سكانية وجغرافية تفوق الـ 60% من سوريا الكبرى.
وأشار البحث إلى توزع زراعة القمح في المحافظات السورية، ولامس التقرير الواقع الزراعي الحالي بعد ست سنوات من بدء الحراك الشعبي المطالب بالحرية، حيث أن كافة المناطق الزراعية السورية تعاني من تداعيات انخفاض الإنتاج الزراعي والحيواني وخاصة إنتاج القمح والشعير موضوع التقرير، علماً أن ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج يطال كافة المناطق السورية مما أدى إلى انخفاض الانتاج إلى 70%، وقد بلغ خلال سنوات الثورة بالمتوسط حوالي 1.3 مليون طن، علماً أن كمية الاستهلاك تتجاوز الـ 2 مليون طن عدا الكمية اللازمة كبذار، ناهيك عن الحاجة للإبقاء على مخزون احتياطي وعلف الحيوانات.
وأحال التقرير انخفاض الإنتاج الزراعي إلى تاريخ من التعاطي السيء مع عملية الإنتاج الزراعي والفساد المستشري في أروقة الحكومة السورية، حيث أشار التقرير إلى أن الواقع الزراعي وما يشهده من انخفاض في الإنتاج لم يتجلَّ خلال سنوات الثورة فقط، إنما بدا واضحاً في العامين 2008 و2010، بدليل قيام حكومة النظام آنذاك بالتسول لدى واحدة من الدول الخليجية التي لبّت الطلب للمساعدة بإبرام عقد مع أوكرانيا لاستيراد حوالي 2 مليون من القمح الطري لصالح سوريا وذلك في العام 2010 وكانت صفقة فاسدة بامتياز, ويذكر العديد من المهندسين العاملين في الهيئة العامة للحبوب بأنهم وخلال استلام كميات متتالية من القمح الأوكراني قد تعرضوا لحالات من الغثيان والإقياء، وقد كانت ذات رائحة كريهة ولكن التعليمات كانت ترغمهم على استلامها ومن ثم شحنها إلى المطاحن، وكانت هذه الشحنة المستوردة غير صالحة للاستهلاك الآدمي بل وحتى لا يصح رميها في البحر حرصاً على الأسماك من التسمم، وهنا قد يتساءل المرء كيف جرى طحنها وبيعها على شكل رغيف الخبز؟، والجواب بأن خلطها مع كميات من القمح السوري الجيد خفف كثيراً من احتمال الإصابة وإلحاق الأذى بالمستهلك.
وقد أشار الدكتور أسامة قاضي، رئيس “مجموعة عمل اقتصاد سوريا”، إلى أن أهمية هذه السلسلة من التقارير، “كونها تهتم بقطاع الزراعة والذي كان يساهم في وقت ما في التاريخ الاقتصادي السوري بقرابة 30 بالمائة من ناتج الدخل القومي، ولكن بسبب فشل السياسات الزراعية، ضمن أجواء البيروقراطية والفساد المالي والإداري باتت الزراعة السورية بالكاد تساهم بـ 16 بالمائة فقط، فضلاً عن انخفاض جودة المحصول وهدره وقهر الفلاح في دولة كانت تعد نفسها دولة العمال والفلاحين”.
وحسب تقرير إعلامي نشرته “مجموعة عمل اقتصاد سوريا”، تابع الدكتور قاضي قائلاً: “لذا تجد الريف السوري كله اشتعل مع بداية تفجر الثورة في عام 2011 والتي كان لها جذر اقتصادي تسبب في استياء أهل الريف”، وأشار إلى أن: “التقرير الزراعي الذي أعدّه الدكتور ديوب مهم للغاية في مستقبل الزراعة في سوريا بعد انتقال سوريا إن شاء الله إلى حال الأمن والاستقرار والتنمية، حيث تكون بمثابة بوصلة للمسؤولين في وزارة الزراعة في الحكومة الانتقالية الأولى عقب حل سياسي ناجز، حتى تتبنى سوريا سياسات زراعية اقتصادية رشيدة”.
وخرج التقرير بـ 16 توصية واقتراح في الشأن الزراعي والتي منها، القيام بتقييم شامل لكافة الأراضي الزراعية، والانتقال إلى نمط جديد في الاستثمار الزراعي من خلال تأسيس شركات زراعية مساهمة، وكذلك الانتقال إلى سياسة التكثيف الزراعي والتي تفضي إلى تحقيق أعلى انتاجية من أصغر وحدة مساحية، وإعادة النظر بقانوني الاستيلاء والاصلاح الزراعي، وإعادة هيكلة وزارة الزراعة بكافة المديريات التابعة لها انسجاماً مع القوانين الجديدة، وحكماً هيكلية المديريات في المحافظات، مع العمل على إلغاء المركزية في التخطيط، وحلّ اتحاد الفلاحين والروابط الفلاحية التابعة له، والانتقال إلى نمط الاتحادات المهنية في المناطق والمحافظات، على سبيل المثال: اتحاد مزارعي القمح، أو اتحاد مزارعي القطن.
كما أوصى التقرير بإعاة النظر في نقابة المهندسيين الزراعيين وإعادة تأسيسها ضمن معايير حديثة وديمقراطية واستبعاد قسرية الانتساب، واستثمار الكم الهائل من المهندسين الزراعيين، والأهم إعادة تقييم المؤسسات العامة التابعة للوزارة، وأهمها إكثار البذار وحوض الفرات وغيرها، والعمل على إحداث منارات زراعية وحيوانية كنماذج مثالية.
ويصرّ الدكتور ديوب على أهمية العمل على إنجاز الخارطة الزراعية لأنها حسب قوله: “لها أهميتين علمية وعملية كإنجاز لجهود وزارة الزراعة وكليات الزراعة ومراكز الأبحاث إضافة إلى كافة المؤسسات ذات الصلة”، وأضاف: “لاشك بأن المقترحات والتوصيات التي أوردتها في التقرير الزراعي الأول ليست محصورة بانتاج القمح فقط إنما بالإجراءات السريعة الواجب القيام بها في اليوم التالي لتحرير سوريا، كما لابد من التنويه بأنها لا تشمل على الثروة الحيوانية نظراً لأن تقديم التوصيات حولها يحتاج إلى تقرير منفصل”.
كما تطرق التقرير في توصياته إلى مسائل اقتصادية في غاية الأهمية، كتشجيع المزارعين للتوجه نحو الزراعات البديلة ذات الأسعار المرتفعة مقارنة بزراعات غير اقتصادية أو غير ريعية، وكذلك الاهتمام بزراعة النباتات الطبية والعطرية، والاهتمام بنشر ثقافة التنمية المستدامة وترسيخها في المجتمع السوري حيث يتوجب تشجيع الزراعات المنزلية والحدائقية، إضافة للرقع الزراعية المحدودة وذلك ضمن إطار الاقتصاد المنزلي.
يُذكر أن مجموعة عمل اقتصاد سوريا هي مؤسسة غير ربحية مستقلة يرأسها المستشار الاقتصادي أسامة قاضي، تُعنى بالأبحاث التي تتناول الاقتصاد السياسي السوري وقد أنجزت أكثر من ثلاثين تقريراً اقتصادياً في هذا المجال.