يتقاذف الصراع في سوريا عملة البلاد وسط أمواج الخيبة، تماماً كما فعل بكل ما هو حامل لقب “سوري”، داخل أو خارج بلد أنهك بكل ما فيه، لكنه مازال يجد رمقاً أخيراً كل مرة يصارع به الموت.
فالليرة السورية التي فقدت أكثر من 90% من قيمتها حتى الآن، دخلت الاثنين الماضي في واحدة من أسرع الوتائر النزولية منذ 2011.. سقوط حر زرع فتيل الغضب هذه المرة داخل “مناطق النظام”، خاصة في أوساط الطبقة الوسطى التي بدأت تتلمس منذ قرابة العام جزءاً من جمر الصراع.
البنك المركزي السوري الذي يقع تحت سيطرة النظام، رفع سعر الصرف الرسمي للدولار الأميركي مقابل الليرة قبل بضعة أيام، إلى مستوى قياسي تاريخي عند 620 ل/د، بعدما كان قد حدد سعر الصرف الرسمي بـ 513 ليرة في السابق، أي بزيادة 20% دفعة واحدة. وهو سعر قريب من ذلك المتداول في السوق السوداء التي باتت ملاذ غالبية السوريين منذ استعار الحرب، والتي تتراوح فيها أسعار صرف الدولار ما بين 650 و700 ليرة، كما ضخ المصرف المركزي ملايين الدولارات في السوق بهدف احتواء أزمة العملة.
وقبل خمس سنوات، كان الدولار يُتداول في سوريا مقابل 47 ليرة فقط، ليتخطى في سبتمبر الماضي 300 ليرة، ذلك قبيل إعلان موسكو التدخل العسكري المباشر في سوريا دعماً لنظام الأسد، الذي شهدت بعده العملة السورية موجة متسارعة أخرى من السقوط الحر، انتهت في “الاثنين الأسود” كما يلقبه السوريون، عند سقف أعلى هو 620 مقابل الدولار الواحد.
وأصبح لسان حال الشارع السوري يقول: “عندك ليرة تسوى ليرة.. عندك دولار تسوى 620 !”.
هذا النزول السريع فسر بأنه نتاج ما خلفته مؤشرات أكثر قتامة كان البنك الدولي قد بثها حول الاحتياطيات النقدية الأجنبية المتبقية لدى النظام، حين قدرها بـ 700 مليون دولار فقط! بعدما كانت تبلغ 20 ملياراً قبل خمس سنوات، بدد النظام جزءاً كبيراً منها على الآلة العسكرية من جيش نظامي وميليشيات لقمع وقتل الشعب الثائر، وسط توقعات أخرى بأن توقف الأزمة الاقتصادية التي يمر بها أكبر حليفين للنظام أي روسيا والصين، المساعدات التي يضخانها لإنعاش النظام وإبقائه على قيد الحياة.
اقتصاد يحتضر
مرحلة الانهيار دقت أبواب الاقتصاد السوري منذ 5 سنوات، حيث قدر تقرير أممي خسائر البلاد بحوالي 259.6 مليار دولار حتى الآن، فيما تقلص ناتجها المحلي الإجمالي بحوالي 55%، في الوقت الذي تقع فيه أهم آبار النفط والغاز في سوريا بيد تنظيم “داعش” المتطرف، هي التي كانت تشكل ركيزة لإيرادات الدولة، إلى جانب إغلاق حدود البلاد مع الأردن وتركيا والعراق، وتوقف حركة التبادل التجاري مع البلدان الثلاثة التي كانت تدر مداخيل بمئات الملايين من الدولارات، وتضرر المصانع نتيجة القصف والتدمير، والتضخم الجامح الذي بلغ حوالي 454% فيما قفز في المناطق المحاصرة إلى ما بين 1000-3000%، بالإضافة إلى انهيار القطاع التعليمي والصحي وتعطل أكثر من 75% من طاقة جميع القطاعات، وتقلص الإيرادات الضريبية من شعب عجز معظمه عن تلبية احتياجاته الأساسية، فكيف به أن يملأ خزائن النظام.
ويرى رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا، د. أسامة قاضي، أنه لم يعد هناك شيء اسمه “اقتصاد سوري” بالمعنى الإداري المركزي، إذ أن “حوالي ثلثي سوريا بات خارج سيطرة وزارات النظام الذي لا يستطيع جبي الضرائب من تلك المناطق، ولا رسوم المعابر أو الرسوم الجمركية، والأمر ينسحب على إنتاج النفط وصوامع الحبوب والتجارة بين المحافظات، بمعنى أن المناطق السورية تعيش كجزر منعزلة لا علاقة للواحدة بالأخرى”.
وأوضح أن مصرف سوريا المركزي “يحاول عبثا ضخ نقد أجنبي ليغطي جزءاً يسيراً من الطلب الكبير الذي تصعب تغطيته، ويحاول أن يبث الأوكسجين في رئتي الليرة السورية التي انقطعت معظم سبل تقويتها، وجعلها قادرة على الصمود أمام التدهور الحاصل في الاقتصاد السوري إلى أن أضحى الانهيار الكارثي للاقتصاد واقعاً بدأ وقد لا يقف إلا بعد عدة سنوات من انتهاء هذا الكابوس”.
الرقع اتسع على الراقع
قال رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا: “لقد عانى الاقتصاد السوري على مدى 5 عقود من مشاكل كبيرة، منها وقوع حوالي نصف الشعب السوري تحت خط الفقر، وانتشار الفساد لدرجة تسببت في تصنيف سوريا في 2011 ضمن أسوأ 30 دولة في العالم من حيث الشفافية، كما أن السياسة الاقتصادية والإدارية الرعناء جعلت سوريا في 2011 ضمن أسوأ 50 دولة فاشلة في العالم على مؤشر The Failed States Index”.
وأضاف أن تجاوز الليرة السورية عتبة الـ 600 مقابل الدولار لم يكن مفاجئاً للمراقبين، بعد أن كانت قرب 50 في العام 2011، موضحاً أن المعطيات الكارثية لحركة الاقتصاد السوري ونموه، وشلل معظم القطاعات الاقتصادية، تنبئ بالأسوأ، على الرغم من الخطوط الائتمانية الإيرانية وقبول طهران وموسكو دعم النظام عسكرياً لقاء مكتسبات قادمة وامتلاك لأراضٍ ومؤسسات عامة، وعلى أمل أن يقوم النظام بتسديد فاتورة الحرب بعد “انتصاره على شعبه”، إلا أن الرقع الاقتصادي أكبر من أي راقع إيراني أو روسي.
في المقابل، قال د. قاضي إن التدخل الروسي المباشر منذ سبتمبر 2015، بهدف إعادة تعويم ما تبقى من جسد النظام السوري، ساهم في انهيار الليرة السورية بوتيرة متسارعة تفوق ما كانت عليه قبل سبتمبر بخمسة أضعاف، فخلال 8 أشهر من التدخل الروسي المباشر، ارتفع الدولار بواقع 307 ليرات تقريباً، أي بمعدل يومي قدره 0.82، بينما كانت الليرة تنخفض على مدار 1631 يوماً منذ بدء الحراك الثوري في سوريا بمعدل يومي قدره 0.16.
وفي الوقت نفسه، لم يستبعد أن تتجاوز الليرة عتبة الـ 1000 مقابل الدولار خلال الأشهر الثلاثة القادمة.
تجار الحروب
داخل دمشق، كشف رجال أعمال لصحيفة “الفاينانشال تايمز” البريطانية، أن التجار المقربين من الحلقة الضيقة للأسد والذين يتحكمون في السوق، عمقوا خسائر الليرة في ظل شكوك حول قيامهم بإغراق السوق بالعملة السورية مقابل امتصاص ما بها من عملة صعبة يحولون إليها إيراداتهم الضخمة، استعداداً للقفز من السفينة ومغادرة البلاد.
وأفادت الصحيفة أيضاً نقلاً عن أحد التجار السوريين، بأن رجال أعمال محليين فضلاً عن مسؤولين من النظام هم أكبر المستفيدين من الفارق في أسعار الصرف التفضيلية المتدنية التي تمنح لهم من قبل النظام نفسه.
وبعد أن كان متوسط الدخل الشهري في سوريا عند 14000 ليرة حسب الأرقام الرسمية للعام 2011، أو ما يعادل حوالي 280 دولاراً، أصبح المواطن السوري بحاجة إلى دخل مقداره 180000 ليرة شهرياً، حتى يحافظ على نفس القدرة الشرائية، بينما في الواقع يتراوح معدل الدخل الحالي بين 25-30 ألف ليرة فقط، بحسب بيانات “مجموعة عمل اقتصاد سوريا”.
وفي محاولة لفرض ضغوط على التجار الذين يقتاتون من اقتصاد الحرب في البلاد، شن سوريون في مناطق النظام حملة لمقاطعة البضائع. وعلى موقع فيسبوك، طالبت صفحة “دمشق الآن” الموالية للنظام حاكم المصرف المركزي أديب ميالة بالاستقالة، فيما يلوح في الأفق شبح “1000 ليرة مقابل الدولار” الذي بات يقض مضجع 2.7 مليون مواطن سوري ما زالوا يعتاشون على رواتب النظام التي لا تغني من جوع، وسط هول الغلاء.. القاع الذي إن هوت إليه الليرة السورية سيوسع أكثر دائرة الجوع في البلاد التي تلف مسبقاً بأعناق 80% من السوريين باتوا يلتحفون خط الفقر، ما ينذر بثورة جديدة لـ “الجياع” لا تُعرف لها أقطاب ولا مؤيد فيها ولا معارض.