لم يزل تقسيم سوريا، رغم ما أشيع أخيراً عن التحضير لتكتلات دولية، على أساس مذهبي، يطرح على أنه الحل الوحيد، لخروج سوريا من أتون الحرب التي يبدو نفقها بلا نهاية.
ولعل من مستجدات إعادة الطرح ظهور التخوف التركي من وصول نيران الحرب السورية لجنوب البلاد وخطر إقامة الكورد دويلة على حدودهم، حيث تحدثت الأنباء مؤخرا عن مناقشة مجلس الأمن القومي التركي مسألة تدخل عسكري في سوريا.
رئيس مجموعة “عمل اقتصاد سوريا” أسامة قاضي، الذي استبعد التدخل التركي العسكري المباشر في سوريا، قال حول حل التقسيم المطروح: إن أي تقسيم مفترض معناه تغيير الحدود الجغرافية لكل دويلة وهذا سيفرض منظومة علاقات دولية مختلفة ومعقدة وقد لا تكون إيجابية، فتركيا ترفض دويلة كردية علناً على حدودها مما سيعرض الدويلة الوليدة –المتخيلة– بمشاكل قبل ولادتها، والدويلة العلوية المتخيلة ليس لها حدود برية، إنما فقط منافذ بحرية، وكذلك سترفض تركيا امتدادها للواء اسكندرون كي لا تكون مشروع انفصال عن تركيا، وكذلك سيكون من الصعب تسهيل مرور سكان تلك الدويلة عبر المنافذ البرية السورية لعدة سنوات بسبب التأزم الطائفي خلال الأزمة.
*خارطة التقسيم
ويضيف القاضي لـ”زمان الوصل” أن كل هذا سيكون له أثر اقتصادي سلبي، إذ سيتسبب التقسيم المتخيل في أذهان البعض بإحداث خلل سكاني وجغرافي، فالدويلة الكردية المفترضة هي نصف الحسكة تقريبا (11 ألف كم2) إضافة ثلث الرقة تقريبا (7 آلاف كم2) وإلى ربع حلب (5 آلاف كم2)، معناها أننا نتحدث عن تشكيل سكاني يجري فيه التطهير الإثني على مساحة 23 ألف كم2 تقريباً، ليس لها منفد سوى لتركيا، أو لسوريا المحتقنة إثنياً في جو متوتر قد لا يروق للعرب المهجرين في المخيمات الذين يتوقون للعودة إلى بيوتهم على تخوم تلك الدويلة ما يعرضها لعمليات انتقام مما يؤدي لعدم استقرارها اقتصاديا، وهي لا تملك ثروة زراعية أو نفطية كبيرة، بعدد سكان أقل من مليوني نسمة، تفتقد للتأهيل المهني الكبير خاصة أن نسبة الأمية بين
الذكور كانت تتجاوز 24 بالمائة في الحسكة بسبب إهمال النظام خلال عقود. ويردف القاضي بأن دويلة حلب المتخيلة ستضم ما تبقى من الرقة ودير الزور وإدلب ومدينة حلب وستكون أكبر الدويلات بمساحة تقارب 60 ألف كم 2 (ثلث مساحة سوريا الحالية) وهي تملك ثروات نفطية وزراعية وتجارية وصناعية هائلة والأهم أن لديها حدودا مع تركيا دون أي مشكلة معها، ما يجعلها نافذتها على العالم، وتشكل نحو ثلث سكان سوريا أكثر من 8 مليون نسمة، وتمتلك يدا عاملة مؤهلة نسبياً، وتاريخا من الخبرة التجارية والصناعية والزراعية.
أما دويلة دمشق المتخيلة، يتابع القاضي، ستضم أكثر من 40 بالمائة من مساحة سوريا فيما لو انضمت ثلاثة أرباع حمص وحماة وتدمر ودمشق وريف دمشق وجزء من درعا يعيش فيها حوالي 8 مليون نسمة، وفيها ثروة زراعية وحقول غاز وفيها يد عاملة مؤهلة وخبرة تجارية وصناعية خاصة.
فيما تشمل الدويلة العلوية المتخيلة اللاذقية وطرطوس وجزءا من حمص وحماة بمعنى أنها تشمل مساحة 25 ألف كم2 تقريبا تمتلك ثروة زراعية ومؤهلات سكانية في مجالات الزراعة والتعليم يعيش فيها أكثر من 3 مليون نسمة، مشكلتها في عدم وجود منافذ برية والمنافذ البرية ستمر عبر بقية سوريا المحتقنة طائفيا الآن، ما يصعب تأمين استقرار أمني واقتصادي فضلاً عن أن نسبة المتواجدين من مذهب الدويلة يتطلب تطهيرا مذهبيا مخيفا تشمل أكثر من 40 بالمائة من السكان وهذا سيكون له عواقب دموية تؤثر على استقرار الدويلة المتخيلة وخاصة تحت ضغط المهجرين من تلك المحافظات التي ستظل تقاتل حتى تعود إلى أراضيها وبيوتها.
ويتابع الدكتور أسامة القاضي: أما الدويلة الأخيرة هي ثلاثة أرباع درعا والسويداء حيث تقدر مساحتها أقل من 10 آلاف كم 2 وبعدد سكان أقل من مليون ونصف ولايوجد لديها منافد برية سوى مع الأردن وفيها يد عاملة مؤهلة زراعيا وتعليميا وبعض الخبرات الصناعية البسيطة، ولا يوجد إلى الآن أصوات من تلك المحافظات تطالب بالتقسيم أصلاً، وأغلب الظن أنها لا ترضى به، لأنه ببساطة في غير صالحها، والمنطقي أن الدويلات المتخيلة حلب ودمشق والجنوب فيها تناغم كبير ولا يمكن النظر إليها إلا كدولة واحدة.
ويقول القاضي إن فكرة التقسيم التي يجرى تخيلها وتداولها هي فكرة افتراضية غير واقعية وغير قابلة للحياة، ولكن افتراضياً فإن دويلتي دمشق وحلب لايوجد سبب متخيل لتقسيمها لدويلتين لما فيها من تناغم كبير بل المنطقي أن تكونا دولة واحدة، وأما دويلات الكرد والجنوب والعلوية، فهي دويلات ميتة اقتصادياً وستكون هناك منع من كل سوريا وحتى بعض دول الجوار، كتركيا، لعدم السماح بالتقسيم وإقامة تلك الدويلات.
كما لا يوجد تقسيم داخل أي دولة في العالم على أساس إثني إلا في أثيوبيا، ولا أعتقد أن أحداً من مصلحته أن يقلّد تجارب الدول الفاشلة… ولا يمكن في نفس الوقت أن يتم تقسيم سوريا على أساس أكثر من معيار…بمعنى لا يمكن أن يتم تقسيم جزء من سوريا على أساس إثني، بينما الآخر على أساس سياسي، فلا يمكن مثلا إقامة دويلة كردية على أساس إثني بينما بقية سوريا على أساس سياسي! وإلا فعلى سوريا إقامة دويلات درزية ومسيحية وعلوية وغيرها وهذا مستحيل عمليا وديمغرافياً لأن السوريين بكل إثنياتهم ومذاهبهم متوزعون في كل أنحاء سوريا، ومختلطون بطريقة لا يمكن عزل أي منهم عن الآخر.
*الفيدرالية هي الحل
وفي حين يرى سوريون أن الحل يأتي عبر الفيدرالية بدأ آخرون يروجون لمصطلحات ربما ترجح حل الأقاليم اللامركزية عبر مصطلح “العيش المشترك” للدلالة على ما يسمونه “توافقاً” بين ما يدعونه “قوميات” أو “طوائف” في سوريا، وهو ما رآه مثقفون سوريون ترويجاً مرفوضاً للمحاصصة وتوزيع الكعكة السورية بالاستناد إلى التوازنات والقوة على الأرض، وهو غير قابل للتطبيق والحياة بحسب ما ختم الدكتور أسامة القاضي حديثه لـ”زمان الوصل ” مضيفا: إن سوريا كوحدة سياسية وجغرافية واقتصادية غير قابلة للتجزيء فاليد العاملة المهنية تتمركز في محافظات والثروات في محافظات أخرى، ونادرا أن نجد في سوريا محافظة واحدة يمكنها أن تعيش مستقلة تماماً عن بقية المحافظات، وهذا سيشكل عقبة في وجه أي تقسيم، ومعناه الحكم على دويلات صغيرة بالموت بسبب حرمانها من الثروة الطبيعية التي تغنيها عن باقي المحافظات، فكيف سيطيق السوريون العيش دون ثروة نفطية تعطى لدويلة، أو التنازل عن الزراعة لصالح دويلة مزعومة أخرى، أو التخلي عن منافذ بحرية للدويلة العلوية وحرمان هذه الدويلة من منافذ برية.
لذا، فإن إقامة دويلات طوائف تؤذن بإقامة “كانتوات” ميتة اقتصادياً تنهي أي حياة في طول سوريا وعرضها، ولا يمكن لأي دويلة أن تقوم بمعزل عن الأخرى، والأسوأ من ذلك أن تفتح باب جهنم من الحرب الأهلية الإثنية والمذهبية قد لا تنتهي لعقود.
هذا، إن تجاوزنا أن “المجموعات الإثنية والدينية المختلفة في المنطقة لا تنقسم إلى وحدات متجانسة منفصلة عن بعضها، بل إن المنتمين لكل مجموعة لا يشتركون بالضرورة في رؤية موحدة لماهية الحكومة التي يريدونها”.