العربي الجديد .
يتنوع المشهد الاقتصادي في المدن السورية، التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد في خضم الثورة. وفيما تقبع عدد من المدن تحت حصار مطبق تفرضه قوات النظام، ويمنع عنها السلع الأساسية والطبية والخدمات لتموت على إيقاع بطيء، وجدت بعض المدن سبيلاً للبقاء بعد إخراج قوات النظام وقوات تنظيم الدولة الإسلامية، “داعش”، منها، حيث نشطت حياة اقتصادية متنوعة ومقبولة تبعاً لظروف الحرب التي تعيشها كل مدينة، ودرجة تماسها أو اقترابها من دول مجاورة.
يشير الخبير الاقتصادي، الدكتور أسامة القاضي، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن “عجلة الاقتصاد المحلية لا تزال تسير في العديد من النواحي والمناطق السورية بشكل مقبول، وخاصة في تلك المدن التي تتمتع بدرجة أمن معقولة وبنسب تدمير أقل من سواها من المدن التي تقع في عين العاصفة، والتي يرميها النظام ليلاً نهاراً ببراميل الحقد والصواريخ”.
الأتارب… نمط للحياة
تبدو مدينة الأتارب، التي تتبع محافظة حلب في شمال سورية، مثالاً جيداً يظهر كيف يواصل السوريون نشاطهم الاقتصادي في ظل الحرب. ويشير تقرير صدر مؤخراً حول المدينة أعدته “مجموعة عمل اقتصاد سورية” إلى أن إنتاج الأراضي الزراعية في الأتارب يشكل مصدر دخل لجزء من سكان المدينة، حيث تنتج محاصيل القمح والزيتون والبطاطا.
ويتراوح الأجر اليومي للعامل في هذا القطاع بين 500 ليرة سورية 750 ليرة. كما تزاول بعض الورش الصناعية والحرفية أعمالها، مثل ورشات الخياطة وتصنيع الحديد وتصليح السيارات ومعامل الخشب والمنظفات. إلا ان الأهم، ربما، هو ما برز بعد اندلاع الثورة وفقدان النظام السيطرة على حقول النفط، إذ انتشرت مصافي تكرير النفط واستخراج الوقود وتنقيته، ويوجد في محيط الأتارب نحو 10 مصاف لتكرير النفط. وتتراوح الأجور اليومية للعمال في الأنشطة الصناعية والحرفية المختلفة بين 1000-1500 ليرة سورية بين (4.5 و7 دولارات)
إلى ذلك، يمتد سوق في مركز المدينة على طول الطريق الرئيسي، ويشكل بدوره مصدر دخل لأصحاب المحال التجارية وبعض التجار والعاملين في المبيعات والتحميل والتخزين. كما ازدهرت في مدينة الأتارب تجارة السيارات المستعملة، فضلاً عن تجارة الإسمنت والحديد ومواد البناء. والأهم من كل ذلك تجارة المواد الغذائية، حيث يصل حجم مبيعاتها اليومية بحسب التقرير إلى مليون دولار.
يعتبر وضع الخدمات مقبولاً في مدينة شهدت حرباً مستمرة. توقفت الاتصالات بعد إخراج قوات نظام الأسد من المدينة وعادت للعمل بعد سلسلة من الإصلاحات. أما بالنسبة إلى البنى التحتية من ماء وكهرباء، فبدأت تنتظم تدريجياً. بالنسبة إلى الماء، فيضخ إلى المدينة من عدة ينابيع في محيطها، ولا تعاني من مشكلة نقص مياه كبقية المناطق المحررة. إلى ذلك، يوجد خط كهربائي يغذي المنطقة، كما يعتمد السكان على مولدات الكهرباء الخاصة في أوقات التقنين التي تشكل مصدر دخل لأصحابها.
يتقاضى جزء من موظفي القطاع العام التابع للنظام السوري رواتبهم حيث لم يجرِ إيقافها. كما يتقاضى عمال المنظمات الأهلية والمجلس المحلي والمنظمات الخيرية والطبية رواتب تتراوح بين 100 دولار و1000 دولار بحسب تقرير “مجموعة عمل سورية”.
إلى ذلك، هنالك جهات تتقاضى رواتبها من الحكومة السورية المؤقتة، ويشمل ذلك العاملين في الدفاع المدني وقطاع النظافة ومقسم الاتصالات وبعض الخدمات. بالإضافة إلى ذلك، فإن عدداً من شباب المدينة، متطوعون في الجيش الحر، يتلقون منحاً شهرية تتراوح بين 100-300 دولار. مع كل ذلك، تبقى شريحة كبيرة من السكان من دون دخل، وتعتمد تلك الشريحة التي تقدر نسبتها بـ 25% من السكان على الإعانات العينية والنقدية المقدمة من المؤسسات الإغاثية المحلية والدولية.
إعزاز… الاستراتيجية
تكتسب مدينة إعزاز، في ريف حلب، أهمية خاصة، إذ تقع في مصب عدة طرق رئيسية حالياً، وتتوسط عدة طرق لمناطق خاضعة لسيطرة عدة جهات متناحرة. تزداد أهميتها، إذ إنها المدينة الأقرب لمعبر باب السلامة الحدودي مع تركيا. وهي مصب للقادمين من المناطق الشرقية، التي تسيطر عليها داعش، وللقادمين من عفرين، التي تخضع للإدارة الذاتية الكردية، وللقادمين من مدينة حلب وريفها.
ترتفع أسعار السلع والخدمات في مدينة إعزاز بنحو 25% عنها في مدينة الأتارب بحسب تقرير “مجموعة عمل اقتصاد سورية”. كما تخضع المدينة الحدودية مع تركيا لتقنين كهربائي شديد، حيث يحصل السكان على الكهرباء بمعدل 3 ساعات كل 72 ساعة، وهو ما جعلهم يعتمدون بصورة تامة على المولدات الكبيرة، التي يديرها تجار ويبلغ سعر الأمبير 500 ليرة سورية أسبوعياً يقدم إمداداً كهربائياً يستمر 10 ساعات يومياً. انقطعت المياه بعد الثورة بشكل تام عن إعزاز، وصار الاعتماد بصورة تامة على مياه الآبار. كما أن شبكة الاتصالات السورية متوقفة تماماً، ويعتمد السكان على شبكة الاتصالات التركية.
يقول أسامة القاضي، رئيس “مجموعة عمل اقتصاد سورية”، التي أعدت التقريرين حول مدينتي “إعزاز” و”الأتارب” إن المجموعة حصلت على المعلومات والإحصائيات من خلال الاستعانة بـ “باحثين سوريين ميدانيين داخل سورية، كما تم الاستئناس ببعض الأرقام الإحصائية الرسمية السابقة، والإحصائيات الميدانية الحية، واستقصاء الآراء من الداخل”.
لا يمكن الحديث اليوم عن “اقتصاد سوري” بحسب القاضي، وذلك بعد أن “فقد بُعد الإدارة المركزية الهام في إدارة أي اقتصاد، فالوزارات المسماة من قبل النظام لا تملك من أمرها الاقتصادي شيئاً، فخزينتها فارغة بسبب عدم إمكانية جبي الضرائب، ولا تملك حتى تحصيل الرسوم الجمركية من كل المعابر السورية، فيما فقدت الوزارات التواصل مع مديرياتها في المناطق، التي خرجت عن سيطرتها، فباتت عاجزة عن تحصيل فواتير الماء والكهرباء”. مع ذلك، يؤكد القاضي أن “أطراف الاقتصاد السوري وأجزاءه المتناثرة ما زالت تدب فيها الحياة، وتحتاج لأيدٍ مهنية اقتصادية ماهرة لتعيد هذه الجزئيات الاقتصادية إلى وحدة كلية ماكروية بعد انتهاء الأزمة بجهود مضنية من حكومة وطنية حكيمة”.