على مدار ثلاثة عقود وحتى مطلع الألفية الثانية، مر الاقتصاد السوري بمراحل اقتصادية كانت سمتها الغالبة الانغلاق في ظل إدارة اشت ا ركية مركزية وضعت الأهداف الإستراتيجية التنموية في خدمة التوجهات السياسية، لذا كان الاقتصاد يدار وفق رؤية مركزية أهدافها الاقتصادية ممهورة بالأهداف السياسية، حيث تراوح الاقتصاد بين وصف الانغلاق الشديد إلى ما هو أقل من ذلك، وقد كان التوجه دائما يحرص على خدمة الأجندة السياسية ذات الرؤية الواحدة، بمعنى أن تحقيق الاكتفاء الذاتي لمواجهة الضغوط السياسية
الدولية، واحتمالات الحصار كان الهاجس والهدف الذي يتم رسم خطط التطوير الاقتصادي بناء عليه، حيث وجه الاقتصاد نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الإستراتيجية وفي خدمة العسكرة، حتى لو لم يكن للسلع المنتجة تقييم اقتصادي مجدي، وهذه الإستراتيجية المكلفة لم يكن هدفها تعزيز رفاه المواطنين والسير في ركب التقدم الاقتصادي، بالتأكيد. حيث نتج عن هذه المرحلة وصول سوريا لتحقيق الاكتفاء الذاتي خاصة في مجالات بعض المحاصيل الزراعية والصناعات الغذائية والطاقة، وكانت تدخل الدولة هذا، يتطلب سيطرة مركزية على مفاصل الاقتصاد، حيث سيطرت على الجزء الأعظم من وسائل الإنتاج، وكانت دائما المشغلة للعمالة بشكل أساسي، مما ولد بطالة مقنعة وهدر بالموارد والطاقات، وساهم في تأرجح دور القطاع الخاصفي إدارة الاقتصاد لا بل غابت الاستثما ا رت الخارجية في فت ا رت طويلة تماما عن القدوم إلى سوريا، واقتصر دور القطاع على ممارسة الأعمال والإنتاج تحت ظل وابل من الضغوط والقيود المانعة لحرية الإنتاج والتجارة الداخلية والخارجية، الأمر الذي أوجد بيئة استثمارية طاردة، وفساد ومخاوف كبيرة من الاستثمار في سوريا.
كما أن الاقتصاد مر بفترات اختناق وتأزم نتيجة لهذه الإستراتيجية المركزية، كما في بداية الثمانينات حيث تأرجح سعر صرف الليرة السوريا ومعدل النمو الاقتصادي إلى معدل نمو صفري، وسجل معدل الدخل الفردي تراجعا ملحوظا. ومر الاقتصاد بمراحل انتعاش وازدهار في أحيانٍ أخرى، خاصة مع بداية التسعينات نتيجة للتوجه نحو تقليص القيود المكبلة للقطاع المالي والنقدي وتخفيف قيود التجارة، نتيجة لتغير شكل النظام الدولي ثنائي القطبية لصالح العالم الغربي، وانهيار المنظومة الاشت ا ركية التي انتهت بفشل سياسات الاقتصاد الاشتراكي وعقمها عن التقدم والتطور، وبروز ما يسمى اقتصاد السوق الاجتماعي المستقى من التجربة الاقتصادية الصينية.
وقد شهدت الفترة الثانية وهي ما بعد عام 2000 تطورات وتوجه نحو ما يسمى الاقتصاد الاجتماعي، الذي يمتاز بالانفتاح النسبي وتغير الأهداف الإست ا رتيجية لعملية إدارة الاقتصاد مقارنة بالإدارة الاشتراكية، حيث أن الاقتصاد الاجتماعي يلتقي مع الاقتصاد الليب ا رلي من حيث الأهداف العامة للتنمية الاقتصادية ويفترق معه في شكل تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد وادارته. ومع تبني هذا النهج يلاحظ أن التوجهات العامة أصبحت أكثر إدراكا لأهمية تمتين أساسيات الاقتصاد وتعزيز الرفاه الاقتصادي للمواطنين وضرورة تغيير الأهداف
الإستراتيجية نحو تع زيز دور القطاع الخاص، وضمن رؤية جديدة تهدف أساسا لوضع الاقتصاد على مسار التطور والتقدم، مما أحدث نقلة نوعية في النشاطات الاقتصادية وتنوعها وتوسع قاعدتها وت ا زيد قوتها التنافسية محليا وعالميا ولكن بشكل نسبي. حيث بقي الاقتصاد رهينة العقلية البيروقراطية والفساد المنبثق عن الإدارة السلطوية والثقافة السابقة. وفي ظل الانفتاح النسبي والرؤية السياسية الواحدة نشأت فئة من بعض المستثمرين ورجال الأعمال التي تعمل ضمن فلك القيادات السياسية ومن أجل مصالحها الذاتية على حساب
الاستثمار النظيف، متجاوزة المصالح الوطنية مما خلق بيئة عمل اقتصادي تمتاز بالفساد، وهي التي احتكرت النشاط الاقتصادي الكبير ودفعت باتجاه الإصلاحات التي تخدم نشاطها الاقتصادي لتحقيق المزيد من المكاسب لا لتوجيه الاقتصاد نحو مجتمع الرفاه.
أما الفترة ما بعد عام 2005 ، فقد شهدت تطورا في النظم والتشريعات التي فتحت أفقا جديدا علق الكثير من الآمال عليها، إلا أن المحيط التنظيمي والعقلية المنفذة للأنظمة المرتبطة بترخيص والتصريح للاستثمار كانت معيقا حاد التأثير، وذلك كون الاستثمار تمت إدارته بذهنية أمنية وبيروقراطية عقيمة أدت إلى الحد بشكل هائل من قدوم الاستثما ا رت في بلد يزخر بالموارد والطاقات والفرص الاستثمارية.
وقد شاب الفترة الكلية تغليب الأمن وعسكرة الاقتصاد على ما سواه من أهداف اقتصادية بحتة. إلا أنه من الجدير التأكيد على أن الاقتصاد السوري قد استفاد من التخطيط المركزي وسياسات الانغلاق التي شابهت إلى حد بعيد است ا رتيجيات التقدم الصناعي المرتكز على سياسات التصنيع بإحلال الواردات (Import Substitution)، التي مرت بها معظم الاقتصاديات المتقدمة، حيث ولدت الفترة قاعدة من وسائل الإنتاج المتعددة الغذائية والز ا رعية والصناعات الخفيفة والمتوسطة والثقيلة منها حرفية وغذائية وفي مجالات القطن والنسيج بالإضافة للصناعات الكيماوية والبتروكيماوية والبترولية والغاز والصناعات الأساسية وفي مجالات الصناعات الاستخراجية الأخرى مثل الفوسفات وغيره والتي تعتمد على الموارد المحلية بشكل أساسي، وشكلت وحدات الإنتاج هذه قاعدة بالغة الأهمية في تحقيق قوة دافعة للاقتصاد فيما بعد، خاصة مع بدء الانفتاح التدريجي وتشجيع الصادرات من خلال السياسات الجديدة مع مطلع التسعينات والألفية الثانية.
الاختناقات الاقتصادية كانت دوافع النظام للانفتاح والإصلاح
وعلى الرغم من الانفتاح التدريجي، إلا أن الممارسات الاقتصادية والأهداف الإستراتيجية الاقتصادية للنظام، ما ا زلت قائمة بشكل أو أخر، وهي محل شك دائم، وقد كان من مخرجاتها تغي ا رت في سلوك المستثمرين في سوريا، قد يكون من أهمها خلق هاجس من عدم الثقة بالنظام بسبب الخوف الدائم من تغيير السياسات الاقتصادية في سوريا تبعا للموقف والنظام السياسي الذي لم يتغير منذ عقود، حيث أن سوريا معرضة للضغوط الخارجية التي قد تشتد أحيانا، مما يدفع بالنظام إلى الانكفاء الاقتصادي داخليا، كما أن السياسات
الطويلة في وضع قيود على الاستيراد والعملة الأجنبية وتغيير السياسات الاقتصادية، جعلت المستثمرين دائما متشككين في مواقف الدولة طويلة الأمد اتجاه المستثمرين وبأن النظام لن يغير جلده. الأمر الذي ولد ممارسات منها عمليات الاكتناز الداخلية للعملات الصعبة اللجوء لأصحاب السلطة في النظام من أجل الحماية وتمرير الاحتياجات من خلف القوانين والأنظمة والقرارات، مما ولد بيئة عمل فاسدة وبالتالي استثمارات يشوب عملها الفساد، علاوة على تشكل طبقة رجال أعمال من أفراد السلطة وطبقاتها محمية أمنيا.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ثقافة إدارة الاقتصاد الحر لم تكن موجودة تماما بسبب عدم تغيير التوجهات الإستراتيجية للاقتصاد ورسوخ ممارسات الإدارة منذ عقود، وجمود النظام الإداري السلطوي ولم يكن هناك ثقافة اقتصادية تنظيمية ليبرالية فاعلة ورشيدة، وعلى الرغم من خطوات الانفتاح التدريجي إلا أن العقلية الأمنية والتخطيط المركزي كانتا هما الشكل الذي سبغ إدارة الاقتصاد. وقد امتازت الفترة بعدم الاستقرار في بيئة الاقتصاد الكلي يمكن ملاحظتها من خلال تتبع معدلات النمو الاقتصادي خلال الفترة، التي أظهرت
اضط ا ربات حادة وكبيرة عبر عن عدم الاستق ا رر، خاصة في عقود الستينات التي شهدت هواجس التأميم وغيره وكذلك السبعينات والثمانينات التي شهدت اضط ا ربات سياسية وعسكرية، إلا أنها بدأت تبدي نوع من الاستقرار مع مطلع التسعينات وبشكل أكبر بعد عام 2004. وهنا يظهر أن واقع الاقتصاد السوري حساس جدا للتغييرات السياسية والعسكرية في الإقليم.