الدولرة (أو مايسمى استبدال العملة) هي عملياً استخدام عملة أجنبية، بالإضافة إلى أو بدلاً من العملة المحلية كعملة قانونية، وتحدث الدولرة عادة في البلدان النامية ذات الحكومة المركزية الضعيفة، أو البيئة الاقتصادية غير المستقرة التي تعاني من تضخم كبير (سوريا 1200 %) واستبدال التعامل بالعملة المحلية بعملة مستقرة تاريخياً، مثل الدولار الأمريكي أو اليورو، لإجراء معاملاتهم اليومية، والدولرة يمكن أن تكون كاملة أو جزئية.
تحدث الدولرة الكاملة بعد أزمة اقتصادية كبيرة، كما في حالات الإكوادور والسلفادور وزيمبابوي، فمثلاً اعتمدت بنما الدولار في عام 1904، بعد وقت قصير من استقلالها عن كولومبيا، بعد قرن تقريبًا، ثم حذت الإكوادور والسلفادور حذوها، حيث قامت الإكوادور بالتبديل في عام 2000 ثم السلفادور في عام 2001.
من ايجابيات عملية الدولرة هي الحصول على فوائد الاستقرار الأكبر في قيمة العملة الأجنبية على العملة المحلية للبلد، ولكن الجانب السلبي للدولرة هو أن البلاد تتخلى عن قدرتها على التأثير في سياستها النقدية الخاصة من خلال تعديل عرض النقود.
عملياً، ما ينهض بالعملة الوطنية لأي دولة في العالم هو حجم انتاجها من السلع والخدمات التي تنتجها الموارد البشرية من القوة العاملة، إضافة إلى تأمين مناخ آمن ليس بالمعنى الأمني فقط بل بالمعنى الاقتصادي، حيث يأمن المستثمر على حرية حركة رأسماله ضمن إطار قانوني عادل ومشجع، ويضمن حقوق المستثمر بشكل شفاف.
في المشهد السوري السلطة الحاكمة فقدت سيطرتها على أهم الموارد الاقتصادية ولاسيما الموارد النفطية، حيث باتت تنتج تسعة آلاف برميل يومياً بدل 340 ألف برميل، وفقدت سلتها الغذائية في المناطق الشمالية الشرقية لصالح منطقة النفوذ الأمريكي التي تدار بيد إدارة كردية، فضلاً عن أن النظام قام بتهجير المورد البشري بشكل جنوني، حيث بلغ عدد المهجرين بين نازح ولاجئ ومغيب قرابة عشرة مليون سوري.
الواقع الاقتصادي السوري يقول أن بلداً لديه 17 مليار دولار احتياطي بددته سلطة حاكمة من أجل خدمة الآلة العسكرية الجهنمية لقتل أبناء الشعب نفسه بمعنى أنه ليس مشروع توسع واستعمار من أجل احتلال بلد آخر، بل هو قتل للموارد البشرية وتدمير للبنية التحتية بأيد سورية في مشهد سوريالي غريب.
نسبة البطالة في سوريا وصلت إلى حدود مذهلة تجاوزت 80 بالمائة، وأذكر أنني كنت شاهدا على صراع عام 2004 بين هيئة مكافحة البطالة التي تقول أن نسبة البطالة 20 بالمائة والمكتب المركزي للإحصاء الذي يكتفي ب 11 بالمائة، والأنكى نسبة الآمنين غذائيا وحسب المعايير الرسمية وصل إلى 34 بالمائة، بمعنى أن ثلثي ماتبقى من شعب غير آمن غذائياً، ولكن لو أننا طبقنا المعايير الواقعية والعملية لحاجات العائلة السورية والتي لاتقل عن 100-120 ألف ليرة سورية (200-250 دولار) فإن نسبة السوريين الذين هم تحت خط الفقر سيتجاوز بسهولة 90 بالمائة.
المشهد الاقتصادي يقول أن لدى سوريا ثلاثة مناطق نفوذ منفصلة واحدة عن الأخرى وهنالك منطقتي نفوذ لاعلاقة للعاصمة دمشق بها لامن قريب ولامن بعيد، منطقة النفوذ التركية، ومنطقة النفوذ الأمريكية وفي تلك المنطقتين ثروتنا الغذائية والنفطية والمائية وتشكل من حيث المساحة نصف مساحة سوريا (لو استثنينا صحراء تدمر).
وقعت السلطة السورية حوالي ثلاثين اتفاقية معلنة مع ايران، منها اتفاقيات اقتصادية بعيدة المدى تمكّن الأخيرة من الهيمنة على الاقتصاد السوري حيث وقع رئيس حكومته عماد خميس مع نائب الرئيس الإيراني إسحاق جهانغيري، اتفاقا حول التعاون الاقتصادي الاستراتيجي بعيد الأمد بين البلدين، إضافة إلى إبرام تسع مذكرات تفاهم في مجالات عدة كالمواصلات وبناء المنازل والاستثمار والتعليم وغيرها، إضافة إلى إبرام خمس اتفاقيات اقتصادية عام 2017، تتضمن انشاء شبكة هاتف نقال وميناء نفطيا واستثمار مناجم فوسفات، كما وقع النظام الشهر الماضي مسودة اتفاق يمنح إيران استثمارات “طويلة الأمد” في سوريا.
سيكون الاقتصاد في حال أضعف لو عرفنا أن النظام وقع أيضاً اتفاقات شراكة مع روسيا في قطاعات الطاقة السورية (نفط، غاز، كهرباء) وكذلك ميناء طرطوس والمرجح أن يسيطر الروس على باقي الموانئ اللاذقية وبانياس، والعقد مع الروس مدته 49 عاما بالنسبة لمرفأ طرطوس يجدد تلقائياً لمدة 25 سنة، ويشمل أراضي المنطقة الساحلية ومنطقة المياه في ميناء طرطوس والمنطقة الأمامية (يعني أي منشأة عائمة لاستخراج الغاز مثلاً)، وهي تشمل سطح الأرض كما تشمل سطح البحر وقاعه وما يمكن أن يظهر تحت المياه من ثروات باطنية، حيث أن سوريا فقدت سيادتها، ليس فقط على الموانئ السورية بل حتى على أية منشأة عائمة فوقها للتنقيب عن الغاز والبترول.
ضمن هذا المشهد المرعب يتناوب حكام المصرف المركزي السوري على المهمة المستحيلة وهي ضبط الايقاع الجنوني لليرة السورية، في غياب الموارد الحقيقية للشعب السوري، فتارة يعد أديب ميالة الشعب السوري ألا تتجاوز الليرة السورية سقف ال300 ليرة للدولار نجد الحاكم الأخير حازم قرفول يتبنى سياسة مهترأة بتثبيت سعر الدولار في المصرف ب 434 ليرة سورية للدولار، ولايكترث بواقع الاقتصاد وحاجة السوق للعملة الصعبة من أجل تغطية الحد الأدنى من الايرادات التي يحتاجها السوق المحلي سواء للاستهلاك أو كمدخلات للانتاج، بحيث يكون سعر السوق 640 ليرة سورية والمصرف المركزي يثبت سعره على أقل ب200 ليرة وليس لديه إلا الحد الأدنى من العملة الصعبة فيضطر التاجر ليشتري من السوق السوداء بسعر أغلى ب200 ليرة من سعر البنك المركزي.
الاقتصاد السوري دخل حالة الدولرة منذ 2012، لأن المستهلكين بطبيعتهم يميلوا للعملات المستقرة، ولن يضعوا دخولهم وثرواتهم نهباً للتضخم الجنوني الذي وصل 1200 بالمائة مابين 2011 و عام 2019، وإن كانت عملية دولرة جزئية في مناطق سيطرة النظام، وتظهر واضحة عند ملاحقة التجار وأصحاب المحلات والموظفين سعر الدولار بشكل يومي وذلك حتى يقيموا قدرتهم الشرائية، وطالما أن معظم مدخلات الانتاج من مواد أولية وغيرها من مواد استهلاكية يتم استيرادها لذا فإن سعر الدولار سيكون له أثر حتى على المواصلات وبائع الخضرة وتاجر العقارات، لأن الكل سيعمل للحفاظ على قوة شرائية عالية للعملة التي يتداولها.
نوع الدولرة الموجودة حالياً في سوريا هي دولرة غير رسمية أو مكبوتة بسبب العقوبات القانونية على التداول للعملات الأجنبية، حيث يحتفظ السوريون بالسندات الأجنبية وغيرها من الأصول غير النقدية في الخارج ؛ وكذلك لديهم ودائع بالعملات الأجنبية في الخارج؛ وكذلك ودائع بالعملات الأجنبية في النظام المصرفي المحلي ؛ أوعملات أجنبية داخل المنازل.
الدولرة مكبوتة في منطقة نفوذ النظام السوري، وسبب الكبت هو منع التداول بالعملات الأجنبية إلا لأغراض تجارية مقننة، وذلك لأن السلطة الحاكمة تخشى فقدان السيطرة على عرض النقود الموجود في السوق.
للأسف عاجلاً أم آجلاً ستظهر الدولرة بشكل شبه كامل مالم تكون هنالك حكومة وطنية منبثقة عن حل سياسي ناجز، وماستقوم به أول حكومة وطنية بعد الحل السياسي هو استبدال العملة المحلية بعملة وطنية، ويتم إنجاز المهمة بشكل تدريجي ومدروس بعد التأكد من استقرار الوضع الأمني والعسكري والاقتصادي، وللأسف لامهرب من دولرة شبه كاملة طالما استمرت الآلة العسكرية الوحشية تدمر البشر والحجر، وإذا استمر التضخم الجامح في الاقتصاد السوري، وحافظ المصرف المركزي على أدائه البائس، فإن الثقة بالعملة المحلية ستنعدم، ومعها قد تختفي الليرة السورية من التداول.